مقدمة: الشاعر الذي تحولت حياته إلى قصيدة
في الذاكرة الشعبية الجزائرية، هناك رجال لا يموتون، بل يتحولون إلى حكايات تروى، وقصائد تُغنى، وأضرحة تُزار. سيدي لخضر بن خلوف هو أكبر من مجرد شاعر، هو ظاهرة ثقافية وروحية فريدة، هو النقطة التي يلتقي فيها التاريخ بالأسطورة، والبطولة بالولاية، والشعر بالكرامة. عاش في قرن من الاضطرابات الكبرى، وشهد بعينيه صراع الحضارات على أرض وطنه، فلم يكتفِ بالمشاهدة، بل أمسك قلمه ليكون المؤرخ الشعبي الأول، وشهر سيف الكلمة ليكون لسان حال المقاومة والجهاد. لكنه في نفس الوقت، كان العبد الزاهد، والعاشق المتيم بنور النبوة، والولي الصالح الذي تروي الأجيال كراماته. حياته نفسها أصبحت قصيدة ملحمية، تتناقلها الألسن، وتضيف إليها كل حقبة تفاصيل جديدة. أن تكتب عن بن خلوف يعني أن تبحر في محيط شاسع من الحقائق التاريخية والروايات الشعبية، وأن تحاول الإمساك بخيط النور الذي يربط بين الرجل الشاعر والإنسان الولي. هذا المقال هو محاولة للقيام بهذه الرحلة، لاستكشاف حياة وقصص وإرث هذا الرجل الذي يعتبر بحق "أبو الشعر الملحون" في الجزائر، وضميرها الحي الذي لم يصمت على مدى خمسة قرون.
جزائر القرن السادس عشر: زمن الصراع والميلاد الجديد
لا يمكن فهم عظمة لخضر بن خلوف وشعره الملحمي دون فهم السياق التاريخي العاصف الذي عاش فيه. كان القرن السادس عشر الميلادي قرناً محورياً في تاريخ الجزائر والمغرب العربي بأسره. لقد كان زمن تحولات كبرى وصراعات دامية رسمت ملامح المنطقة لقرون قادمة. بعد سقوط غرناطة عام 1492، لم تتوقف القوى الإسبانية والبرتغالية عند هذا الحد، بل بدأت في التوسع على سواحل شمال أفريقيا، بهدف السيطرة على طرق التجارة ومنع أي محاولة لاستعادة الأندلس.
احتلت إسبانيا مدناً وموانئ استراتيجية على الساحل الجزائري، مثل وهران، وبجاية، ومستغانم. فرض هذا الوجود العسكري الأجنبي واقعاً جديداً، وأشعل روح المقاومة والجهاد الديني لدى السكان المحليين. في خضم هذا الفراغ السياسي وعجز السلالات الحاكمة المحلية (مثل الزيانيين في تلمسان)، ظهرت قوة جديدة على الساحة: الإخوة العثمانيون، عروج وخير الدين بربروس. استنجد بهم أعيان الجزائر لمواجهة الخطر الإسباني، فاستجابوا للنداء، وتمكنوا من تحرير العديد من المدن، وتأسيس "إيالة الجزائر" تحت راية السلطنة العثمانية. لقد كان القرن السادس عشر إذاً قرن صراع مرير بين قوتين عظيمتين، الإمبراطورية الإسبانية والإمبراطورية العثمانية، وكانت أرض الجزائر هي ساحة المعركة. في هذا الجو المشحون بالبارود، والبطولة، والغيرة الدينية، وُلد ونشأ لخضر بن خلوف. لم يكن شاعراً يكتب من برج عاجي، بل كان ابناً لهذه المعركة، شاهداً عليها، ومشاركاً فيها، ولسان حالها.
سيرة حياة بين الحقيقة والأسطورة
النشأة في أحضان الظهرة:
تجمع الروايات التاريخية والشعبية على أن لخضر بن عبد الله بن خلوف ولد في أواخر القرن الخامس عشر أو مطلع القرن السادس عشر، حوالي عام 1479 ميلادي (وهو التاريخ الأكثر ترجيحاً) وتوفي عن عمر يناهز 125 عاماً حوالي 1604. وُلد في منطقة قبائل داحوس (الظهرة)، بالقرب من وادي "الخميس" غير بعيد عن مدينة مستغانم. تنتمي عائلته إلى قبيلة زغوان الأمازيغية. نشأ في بيئة ريفية بسيطة، تعتمد على الزراعة والرعي، وتتشبع بقيم التدين، والفروسية، والتعلق بالأرض. حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وتلقى تعليماً دينياً ولغوياً في إحدى زوايا المنطقة، مما منحه قاعدة صلبة مكنته من امتلاك ناصية اللغة العربية والتعمق في العلوم الدينية.
الشاعر الفارس:
تشير قصائده، خاصة قصيدة مزغران، إلى أنه لم يكن مجرد متفرج، بل كان فارساً ومشاركاً في الجهاد ضد الإسبان. يصف نفسه في شعره بأنه كان يحمل السلاح ويقاتل في صفوف المجاهدين. هذه التجربة الميدانية المباشرة هي التي منحت شعره الحربي تلك القوة والواقعية والدقة في الوصف. كان يرى بعينيه، ويقاتل بيديه، ثم يكتب بقلبه، فجاء شعره سجلاً حياً للمعركة.
الولي الصالح:
إلى جانب صورته كشاعر ومجاهد، ترسخت في الذاكرة الشعبية صورة بن خلوف كولي صالح ورجل كرامات. يُعتقد أنه عاش حياة طويلة جداً (125 عاماً حسب الرواية الأكثر شيوعاً)، وأنه قضى الجزء الأخير من حياته في العبادة والزهد والتأمل. أصبح مقصداً للناس يطلبون بركته ودعاءه، وتحولت قصائده الدينية إلى أوراد تتلى في مجالس الذكر. هذه الصورة كـ "ولي" هي التي ضمنت لشعره القداسة والاحترام، وجعلت من الحفاظ عليه ونقله واجباً دينياً لدى مريديه ومحبيه.
كرامات وقصص خالدة: عندما يتكلم الولي بالشعر
إن جزءاً كبيراً من سيرة لخضر بن خلوف لا نجده في كتب التاريخ، بل في الحكايات الشعبية التي تناقلتها الأجيال بلهفة وإعجاب. هذه القصص، وإن كانت تنتمي إلى عالم الأسطورة، إلا أنها تعبر عن المكانة العظيمة التي احتلها هذا الرجل في قلوب الناس.
الرؤيا المنامية: كيف أصبح شاعراً بأمر نبوي
تعتبر هذه القصة هي حجر الزاوية في أسطورة بن خلوف، وهي مفتاح فهم القداسة التي تحيط بشعره. تروي الحكاية أن لخضر بن خلوف لم يكن شاعراً في بداية حياته. وفي إحدى الليالي، رأى في منامه رؤيا عظيمة. جاءه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في المنام، وأمره بأن يفتح فمه، فوضع في فمه شيئاً (تختلف الروايات في تحديده، لكنها تتفق على الفعل)، وقال له: "من اليوم، قُل الشعر في مدحي". استيقظ بن خلوف من نومه، وإذا بلسانه ينطلق بالشعر الموزون والمقروء، كأنه نهر تدفق فجأة. كانت أولى قصائده بعد هذه الرؤيا في مدح الرسول الكريم. هذه القصة لا تروي فقط بداية موهبته، بل تمنحها شرعية إلهية. فشعره، حسب هذه الرواية، ليس مجرد إبداع بشري، بل هو "فتح" رباني، وهبة نبوية، وهذا ما يفسر لماذا أصبح مدح الرسول هو المحور الرئيسي لديوانه.
حكاية الأسد الخادم:
من أشهر كراماته التي تروى، أنه كان مسافراً في إحدى المرات وحيداً في منطقة جبلية موحشة. فجأة، اعترضه أسد ضخم، وبدا أنه يستعد للانقضاض عليه. لم يجزع بن خلوف، بل وقف في مكانه، ونظر إلى الأسد، وبدأ يرتل قصيدة في مدح الله ورسوله. تقول الأسطورة إن الأسد، ما إن سمع الشعر، حتى خضع وربض عند قدمي الشاعر كالقط الأليف. لم يكتفِ بذلك، بل حمل عنه متاعه، وسار معه كخادم مطيع حتى أوصله إلى وجهته. هذه القصة، التي تتكرر في سير العديد من الأولياء، ترمز إلى أن قوة الإيمان والكلمة الصادقة قادرة على إخضاع أقوى الوحوش، وأن الولي الصالح محفوظ بحفظ الله أينما حل وارتحل.
الشاعر المتنبئ (الجفر):
يحتوي ديوان بن خلوف على قصائد رمزية غامضة، فسرها أتباعه على أنها نبوءات بأحداث مستقبلية. هذا النوع من الشعر يُعرف بـ "علم الجفر". أشهر هذه القصائد هي تلك التي يُعتقد أنها تنبأت بالاحتلال الفرنسي للجزائر بعد قرون من وفاته. يتحدث فيها بأسلوب رمزي عن "النصارى" الذين سيأتون، وعن تغير الأحوال، وعن ظهور أشياء غريبة (فسرها البعض لاحقاً بأنها السيارات والطائرات). بغض النظر عن صحة هذه التفسيرات، فإن وجود هذه القصائد "النبوئية" أضاف بعداً آخر لشخصية بن خلوف، وحوله في نظر الكثيرين من مجرد ولي وشاعر، إلى عارف بالأسرار الإلهية ومطلع على لوح الغيب.
شاعر مزغران: المؤرخ الذي كتب التاريخ بالدم والدموع
إذا كانت قصصه الأسطورية قد صنعت منه ولياً، فإن قصيدته عن معركة مزغران قد صنعت منه بطلاً قومياً ومؤرخاً فريداً من نوعه. هذه القصيدة الطويلة، التي تعتبر درة ديوانه، ليست مجرد عمل أدبي، بل هي أهم وثيقة تاريخية شعبية عن واحدة من أهم المعارك في تاريخ الجزائر.
معركة مزغران (1558): سياق البطولة
في عام 1558، قرر الحاكم الإسباني لمدينة وهران، الكونت دي ألكوديت، أن يشن حملة عسكرية كبرى للقضاء على المقاومة في مستغانم وتوسيع نفوذه. جهز جيشاً ضخماً، يعتبر من أكبر الجيوش التي سيرتها إسبانيا في شمال أفريقيا. سار الجيش الإسباني باتجاه مستغانم، لكنه حوصر من قبل قوات المقاومة الجزائرية، بقيادة حسن باشا بن خير الدين، وانضم إليهم آلاف المتطوعين من القبائل المجاورة. دارت رحى معركة طاحنة في منطقة "مزغران"، بالقرب من مستغانم، انتهت بنصر جزائري ساحق، ومقتل الكونت دي ألكوديت نفسه، وإبادة شبه كاملة لجيشه.
القصيدة كوثيقة تاريخية:
كان لخضر بن خلوف شاهداً ومشاركاً في هذه المعركة. وبعد النصر، نظم قصيدة ملحمية طويلة تعتبر تحفة في الأدب الشعبي. المذهل في هذه القصيدة هو دقتها التاريخية. فهي ليست مجرد تمجيد للنصر، بل هي تقرير ميداني مفصل. يذكر فيها بن خلوف:
- أسماء القادة: يذكر بالاسم قادة الجيشين، مثل الكونت دي ألكوديت من الجانب الإسباني، وحسن باشا من الجانب الجزائري.
- تعداد الجيوش: يقدم أرقاماً تقديرية لعدد الجنود في كل جيش.
- سير المعركة: يصف مراحل المعركة بالتفصيل، من خروج الجيش الإسباني من وهران، إلى الحصار، إلى المواجهات المباشرة، وحتى اللحظات الأخيرة للمعركة.
- تفاصيل دقيقة: يذكر تفاصيل صغيرة مثل أنواع الأسلحة، وأسماء بعض الأماكن، وحتى حالة الطقس.
الإرث الخالد: من هو بن خلوف اليوم؟
بعد مرور أكثر من أربعة قرون على وفاته، لا يزال إرث لخضر بن خلوف حياً ومتجذراً في الثقافة الجزائرية. يتجلى هذا الإرث في عدة جوانب:
أبو الملحون ومؤسس المدرسة البدوية:
يُعتبر بن خلوف بالإجماع "أبو الشعر الملحون" في الجزائر، والمؤسس الحقيقي للمدرسة "البدوية" أو "الصحراوية" في هذا الفن. يتميز هذا الأسلوب بقوته، وبساطته، واعتماده على اللهجة الريفية الأصيلة، وتركيزه على مواضيع الجهاد، والمديح النبوي، والحكمة. لقد وضع الأسس التي سار عليها مئات الشعراء من بعده، وأصبح ديوانه هو المرجع الأول لكل من يريد دراسة أو غناء هذا اللون من الشعر.
المصدر الأول لفن الشعبي:
عندما أسس الحاج محمد العنقاء فن الشعبي في القرن العشرين، كان ديوان لخضر بن خلوف هو المنجم الذي استخرج منه أثمن جواهره. العديد من أشهر أغاني الشعبي الخالدة هي في الأصل قصائد لابن خلوف، مثل "حمدة"، و"على النبي صلوا يا عشاق"، وغيرها الكثير. لقد ضمن فن الشعبي استمرارية شعر بن خلوف ووصوله إلى الأجيال الجديدة.
الرمز الوطني والروحي:
لا يزال ضريح سيدي لخضر بن خلوف، بالقرب من مستغانم، مزاراً مقدساً يحج إليه الآلاف سنوياً، خاصة خلال "الوعدة" أو "الركب" السنوي الذي يقام تكريماً له. إنه رمز للبطولة الوطنية، والغيرة الدينية، والولاية الصالحة. في الوعي الجمعي الجزائري، هو حارس الذاكرة، والشفيع، والجد الروحي الذي لا يزال يرعى أحفاده ببركته وشعره.
خاتمة: الشاعر الذي لن يموت
في الختام، يبقى سيدي لخضر بن خلوف شخصية استثنائية عصية على التصنيف. هل هو مؤرخ؟ نعم، فقد أرّخ لأهم معارك عصره بدقة فاقت دقة المؤرخين المحترفين. هل هو شاعر؟ نعم، بل هو من أعظم شعراء الملحون على الإطلاق، وديوانه دستور لهذا الفن. هل هو ولي صالح؟ نعم، فالأجيال تتناقل كراماته وتطلب بركته حتى اليوم. إنه كل هؤلاء مجتمعين. إنه الظاهرة التي تثبت أن أعظم الفن هو ما ينبع من صدق الإيمان، وصدق التجربة، وصدق الانتماء للوطن. عاش لخضر بن خلوف في زمن السيف والبارود، فجعل من قلمه سيفاً، ومن شعره ذخيرة لا تنفد. رحل جسده منذ قرون، لكنه ترك وراءه صوتاً لا يزال يتردد في كل قصيدة ملحون، وفي كل أغنية شعبي، وفي كل قلب جزائري، ليظل الشاعر الحي الذي لن يموت أبداً.
مصادر ومراجع موثوقة
- ديوان سيدي لخضر بن خلوف، المحقق والمنشور في طبعات متعددة (أهمها طبعة محمد بن رمضان شاوش).
- "La poésie populaire (melhun) au Maghreb" (الشعر الشعبي - الملحون - في المغرب العربي) - تأليف أحمد العمري.
- "Sidi Lakhdar Benkhlouf, mythes et réalités" (سيدي لخضر بن خلوف، أساطير وحقائق) - أبحاث ودراسات للباحث الجزائري عبد القادر بن دعماش.
- "L'Islam mystique et la poésie du Maghreb" (التصوف الإسلامي وشعر المغرب العربي) - تأليف فوزي صقلي.
- "Histoire de l'Algérie à la période ottomane" (تاريخ الجزائر في الفترة العثمانية) - تأليف وليام سبنسر.
- الأرشيف الشفوي والتسجيلات الميدانية لأغاني الملحون والشعبي التي تحتفظ بها مراكز البحث والمكتبات الوطنية.