مقدمة: النهر ودلتاه... قصة تحول فني عظيم
تاريخ الفنون العظيمة يشبه تاريخ الأنهار الكبرى. هناك النبع الصافي، والنهر الرئيسي الذي يجري بقوة وثبات، ثم هناك الدلتا، حيث يتفرع النهر إلى أفرع جديدة، تروي أراضٍ خصبة وتخلق حيوات مختلفة، لكنها جميعاً تحمل في جوفها ماء النهر الأم. هكذا هي العلاقة بين الموسيقى الأندلسية وفن الشعبي الجزائري. الموسيقى الأندلسية، بكل تاريخها العريق وقواعدها الصارمة، هي النهر العظيم الذي تدفق من الفردوس المفقود. وفن الشعبي، هو تلك الدلتا الخصبة التي تشكلت على أرض الجزائر، وتحديداً في قصبة عاصمتها، على يد مهندس فذ هو الحاج محمد العنقاء. لم يكن الشعبي مجرد نسخة "شعبية" من الأندلسي، بل كان تحولاً عبقرياً، وتكييفاً عميقاً، واحتضاناً لروح هذا الفن مع منحه صوتاً وهوية جديدين. لفهم الشعبي، يجب أولاً أن نفهم قوانين العالم الذي وُلد منه. هذا المقال هو رحلة من النهر إلى الدلتا، نستكشف فيها المقامات (الطبوع) والإيقاعات (الموازين) التي تحكم "النوبة" الأندلسية، ثم نرى كيف استلم الحاج محمد العنقاء هذا الإرث، وفككه، وأعاد تركيبه ليخلق فناً جديداً ناطقاً باسم الشعب.
أسس الصنعة: تفكيك "النوبة" الأندلسية وقوانينها
الموسيقى الأندلسية، أو "الصنعة" كما تُعرف في الجزائر، هي عالم موسيقي محكم البناء، له قوانينه الصارمة التي تم تطويرها وصقلها عبر قرون. لفهم كيفية تعامل العنقاء مع هذا الإرث، يجب أن نتعرف على مكوناته الأساسية، والتي تتجسد في بنية "النوبة".
1. النوبة: القصر الصوتي ذو الأقسام الخمسة
النوبة ليست مجرد أغنية، بل هي "متتالية" موسيقية متكاملة (Suite)، أشبه بقصر معماري يتكون من عدة غرف وقاعات، لكل منها طابعها الخاص، لكنها جميعاً تتبع تصميماً موحداً. تُبنى النوبة بأكملها على مقام (طبع) واحد، وتتكون تقليدياً من خمسة أقسام (حركات)، لكل قسم إيقاعه (ميزانه) المميز، وتتسلسل من البطيء إلى السريع:
- المصدّر: افتتاحية فخمة وبطيئة، تمهد لأجواء النوبة.
- البطايحي: حركة أبطأ نسبياً، تتميز بالوقار والعمق.
- الدرج: حركة متوسطة السرعة، تبدأ فيها الحيوية بالظهور.
- الانصراف: حركة سريعة ومرحة، تمثل ذروة النوبة.
- الخلاص: خاتمة سريعة جداً وحيوية، تُنهي النوبة بشكل بهيج.
2. الروح اللحنية: المقامات والطبوع
الطبع (المقام) هو الروح التي تسكن جسد النوبة. هو ليس مجرد سلم موسيقي، بل هو نظام لحني متكامل له شخصيته، ومزاجه العاطفي، ومساراته اللحنية المميزة. كل طبع يثير في النفس شعوراً مختلفاً (فرح، حزن، تأمل، شوق...). من أشهر الطبوع المستخدمة في الصنعة الجزائرية:
- طبع الزيدان: معروف بفخامته وقوته، وغالباً ما يُستخدم في التعبير عن الفخر والشجاعة.
- طبع الغريب: كما يوحي اسمه، يعبر عن الشوق والحنين والغربة، وهو من أكثر الطبوع تأثيراً في النفس.
- طبع السيكاه: طبع رقيق وعذب، يعبر عن الحب الرقيق والتأمل الروحي.
- طبع المزموم: طبع حيوي ومرح، يستخدم في المواضيع التي تدعو للبهجة.
- طبع الرصد ورصد الذيل: من أقدم الطبوع وأكثرها وقاراً وعمقاً، ويستخدم في المواضيع الجادة والحكمية.
3. النبض الإيقاعي: الموازين
إذا كانت الطبوع هي الروح، فالموازين (الإيقاعات) هي القلب النابض للنوبة. لكل حركة من حركات النوبة الخمس ميزانها الخاص، وهو عبارة عن دورة إيقاعية محددة تتكرر. هذه الموازين مركبة ومعقدة، وتعتمد على تتابع الضربات القوية (دم) والضعيفة (تك). على سبيل المثال، ميزان "البطايحي" هو ميزان ثقيل ومركب، بينما ميزان "الانصراف" هو ميزان خفيف وسريع. هذا النظام الإيقاعي الدقيق هو ما يمنح الموسيقى الأندلسية طابعها المنظم والمهيب.
المدرسة العنقاوية: "أنسنة" الصنعة وتطويعها
عندما ورث الحاج محمد العنقاء هذا الصرح الفني العظيم، لم يتعامل معه كمتحف يجب الحفاظ عليه كما هو. بل نظر إليه بعين الفنان الذي يفهم روح عصره ومجتمعه. أدرك أن هذا الفن، بكل رقيه، بعيد عن هموم وتطلعات الإنسان البسيط في القصبة. فبدأ عملية "أنسنة" وتطويع لهذا الإرث، وهي العملية التي أسست لمدرسة الشعبي العنقاوية. تم ذلك عبر عدة محاور:
1. تحرير المقام: من الطبع إلى الاستخبار
في الموسيقى الأندلسية، يكون المقام (الطبع) محدداً وتتبعه الجوقة كلها بدقة. أما العنقاء، فقد أعطى للمقام حرية شخصية لم تكن معهودة. لقد خلق مساحة للارتجال الفردي المطلق في بداية الأغنية، وهي ما يُعرف بـ "الاستخبار". الاستخبار ليس مجرد مقدمة موسيقية، بل هو لحظة تجلٍّ يكشف فيها الفنان عن حالته النفسية، ويستعرض فهمه العميق لروح المقام. يعزف العنقاء على مندوله استخباراً حراً، يتنقل فيه بين درجات المقام، مستعرضاً مشاعره الخاصة قبل أن يبدأ في غناء القصيدة. لقد حول المقام من "قانون" جماعي إلى "بوح" فردي، وهذه كانت أولى وأهم خطوات "أنسنة" الصنعة.
2. تبسيط الإيقاع وخدمة الكلمة:
أدرك العنقاء أن الإيقاعات الأندلسية المركبة (الموازين) قد تطغى أحياناً على وضوح الكلمة الشعرية. وبما أن مشروعه الفني كان يهدف إلى إبراز شعر الملحون وقصائده المليئة بالحكمة، فقد عمد إلى تبسيط الإيقاع. تخلى عن التسلسل الإيقاعي الخماسي للنوبة، واعتمد على إيقاعات أكثر بساطة ووضوحاً (غالباً 4/4)، مما جعل الإيقاع في خدمة الكلمة وليس العكس. أصبح المستمع قادراً على متابعة قصة القصيدة والتأمل في معانيها دون أن يتشتت ذهنه بالتعقيدات الإيقاعية. هذا التبسيط لم يكن إفقاراً، بل كان تركيزاً على جوهر الرسالة: الشعر.
3. من النوبة إلى القصيدة: تغيير مركز الثقل
كانت "النوبة" هي الوحدة الأساسية في الصنعة الأندلسية. أما في مدرسة العنقاء، فقد أصبحت "القصيدة" هي الوحدة الأساسية. استبدل العنقاء البناء المعماري للنوبة ببناء درامي يرتكز على قصيدة واحدة طويلة من شعر الملحون. أصبح الهيكل الجديد للشعبي يتكون من:
- الاستخبار: المقدمة الارتجالية التي تهيئ الجو النفسي للمقام.
- القصيدة: وهي قلب الأغنية، يتم غناؤها بلحن هادئ ورصين، مع فواصل موسيقية (جوابات) تسمح بالتأمل.
- الخاتمة (الفينالة): مقاطع شعرية خفيفة وسريعة تُنهي الأغنية بجو من البهجة.
حوار بين عالمين: طبع السيكاه نموذجاً
لفهم الفروقات والروابط بشكل ملموس، دعونا نأخذ "طبع السيكاه" كمثال ونرى كيف يتم التعامل معه في العالمين: عالم الصنعة الأندلسية وعالم الشعبي العنقawi.
السيكاه في الصنعة الأندلسية:
طبع السيكاه في الصنعة هو مقام رقيق وعذب، يرتبط بالحب الروحي والتأمل. عندما تُعزف نوبة في طبع السيكاه، تكون الأجواء محكومة بقواعد دقيقة. تبدأ الجوقة بمقدمة آلية جماعية (توشية) في مقام السيكاه. ثم تبدأ حركات النوبة الخمس، وكل حركة (مصدّر، بطايحي...) لها إيقاعها الخاص وألحانها المحددة سلفاً ضمن الطبع. الأداء جماعي، منضبط، والأصوات متناغمة بشكل تام. الهدف هو خلق حالة من الجمال الصافي والكمال الفني، أشبه بحديقة منسقة بدقة فائقة.
السيكاه في الشعبي العنقawi:
عندما يأخذ العنقاء طبع السيكاه، فإنه يبدأ الحكاية بشكل مختلف تماماً. يمسك بمندوله، وفي صمت تام، يبدأ "استخبار السيكاه". لا يوجد لحن معد مسبقاً، بل هو حوار شخصي وحميم بين الفنان وآلته. قد يكون استخباره قصيراً ومكثفاً، أو طويلاً ومتأملاً، حسب حالته النفسية في تلك اللحظة. إنه يرسم ملامح المقام بلمسته الخاصة، بصوته الداخلي. بعد هذا الاستخبار، يبدأ في غناء قصيدة طويلة، مثلاً "يا المقنين الزين" لسيدي لخضر بن خلوف. هنا، لا يستخدم العنقاء كل الإيقاعات المعقدة للنوبة، بل يعتمد على إيقاع هادئ وبسيط يخدم السرد الشعري. صوته العميق، وضرباته المتمهلة على المندول، تجعل من طبع السيكاه هنا ليس مجرد حالة جمالية، بل حالة "وجدانية" عميقة. إنه يأخذك في رحلة مع بطل القصيدة (الطائر)، وتعيش معه الشوق والفراق. الهدف هنا ليس الكمال الفني بقدر ما هو الصدق التعبيري والعمق الإنساني. لقد حوّل العنقاء السيكاه من "حديقة منسقة" إلى "غابة طبيعية" مليئة بالأسرار والمشاعر.
خاتمة: احتضان وتجديد... جوهر العلاقة
إن العلاقة بين الموسيقى الأندلسية والشعبي الجزائري ليست علاقة قطيعة، ولا هي علاقة نسخ. إنها علاقة "احتضان وتجديد". لقد احتضن الحاج محمد العنقاء روح الصنعة الأندلسية، بكل طبوعها ومقاماتها، لكنه لم يسجن نفسه في قوالبها. لقد نظر إليها كمادة خام غنية، وأخضعها لرؤيته الفنية المبتكرة، فصنع منها فناً جديداً يعكس هوية مجتمعه وروح عصره.
لقد أخذ الوقار من الزيدان، والشوق من الغريب، والرقة من السيكاه، وحررها من صرامة النوبة ليضعها في خدمة القصيدة الملحونة. استبدل الجوقة الكبيرة بصوت المندول العميق، والبناء المعماري للنوبة بالبناء الدرامي للقصيدة. وبهذا، لم يقتل العنقاء أباه (الأندلسي)، بل ضمن له حياة جديدة وخلوداً في شكل مختلف، شكل يتحدث لغة الشعب، ويعبر عن نبضه. فكانت المدرسة العنقاوية هي الجسر الذهبي الذي عبرت عليه كنوز الأندلس لتسكن في قلب الجزائر إلى الأبد.
مصادر ومراجع موثوقة
- "El Anka et les maîtres du chaâbi" (العنقاء وأساتذة الشعبي) - تأليف سعدان بن أمان.
- أعمال وأبحاث عبد القادر بن دعماش، المؤرخ المتخصص في الشعبي.
- "معلمة الملحون" لمحمد الفاسي، كمرجع لفهم الشعر الذي اعتمده الشعبي.
- "La Musique arabo-andalouse" (الموسيقى العربية الأندلسية) - تأليف كريستيان بوشيه (Christian Poché).
- مقالات وتحليلات منشورة في المجلات الأكاديمية المتخصصة في علم الموسيقى (Ethnomusicology) حول موسيقى شمال أفريقيا.
- الأرشيف السمعي للمكتبة الوطنية الجزائرية والإذاعة الجزائرية، والذي يحتوي على تسجيلات نادرة للموسيقى الأندلسية (الصنعة) ولحفلات الحاج محمد العنقاء.