مقدمة: الشاعر الذي نسج مدينة في قصيدة
في سجل الخالدين، هناك أسماء تتجاوز كونها مجرد علامات في التاريخ لتصبح هي التاريخ نفسه. محمد بن مسايب هو أحد هذه الأسماء. لم يكن مجرد شاعر مرّ في تاريخ تلمسان، بل هو الشاعر الذي أصبحت تلمسان تسكن في قصائده. في شعره، تجد أصداء أسواقها، وهمس أزقتها، وروحانية أوليائها، وعشق نسائها، وحكمة شيوخها. يُعتبر بن مسايب، بالإجماع، "سيد شعر الملحون الغرناطي" بلا منازع، والعمود الفقري الذي يقوم عليه هذا الفن العريق. لقد ورث كنوز الشعر الأندلسي، لكنه لم يكن مجرد حافظ أمين، بل كان مبدعاً أصيلاً صاغ من لهجة تلمسان اليومية لغة شعرية راقية، قادرة على التعبير عن أرق مشاعر الحب وأعمق تجارب التصوف. أن تقرأ بن مسايب يعني أن تتجول في شوارع تلمسان خلال القرن الثامن عشر، وأن تستمع إلى نبض قلبها. هذا المقال ليس مجرد سيرة ذاتية، بل هو محاولة للغوص في عالم هذا الشاعر الفذ، واستكشاف كيف تحولت حياته وشعره إلى الروح الخالدة لتراث الغرناطي الذي لا يزال يتردد صداه حتى يومنا هذا.
تلمسان في عصر بن مسايب: ملتقى الثقافات وآخر معاقل الأندلس
لفهم عمق عبقرية محمد بن مسايب، لا بد من فهم روح المدينة التي أنجبته وصقلته: تلمسان. في أواخر القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، لم تكن تلمسان مجرد مدينة في غرب الجزائر، بل كانت عالماً ثقافياً قائماً بذاته. كانت لا تزال تحتفظ ببريقها كعاصمة للدولة الزيانية، وتحمل في طياتها إرثاً حضارياً عريقاً. والأهم من ذلك، أنها كانت الملاذ الأخير والأهم للموجات المتعاقبة من المهاجرين الأندلسيين الفارين من حروب الاسترداد. هؤلاء المهاجرون، وخاصة من مملكة غرناطة، لم يأتوا بيد فارغة، بل جلبوا معهم كنوزاً من المعرفة والفن والصنائع، وعلى رأسها الموسيقى والشعر.
تحولت تلمسان إلى "غرناطة الصغيرة"، حيث امتزجت الثقافة الأندلسية الراقية بالثقافة المحلية الأصيلة. كانت المدينة مركزاً تجارياً مهماً، ومركزاً روحياً بوجود أضرحة كبار الأولياء مثل سيدي بومدين الغوث، مما خلق بيئة فريدة يمتزج فيها الفن بالتجارة، والتصوف بالحياة اليومية. في هذه البيئة الغنية، نشأ بن مسايب. لقد تنفس الهواء المشبع بالشعر الأندلسي، واستمع إلى النوبات التي تعزف في حفلات الأعيان، وفي نفس الوقت، كان جزءاً من نسيج المجتمع الحرفي البسيط. هذا التمازج بين الإرث الأندلسي النخبوي والحياة الشعبية اليومية هو الذي سيشكل لاحقاً جوهر شعره، ويمنحه تلك الأصالة والعمق الذي يميزه.
حياة الشاعر: بين مغزل الحائك وقلم المبدع
الأصول والنشأة: جدل التاريخ وحقيقة الإرث
تكتنف تفاصيل حياة بن مسايب المبكرة بعض الضبابية، مما أدى إلى ظهور روايات تاريخية مختلفة. فبينما تشير بعض الروايات الشفهية إلى أنه عاش في القرن السادس عشر، يجمع كبار الباحثين والمؤرخين، استناداً إلى تحليل نصوصه الشعرية والسجلات التاريخية، على أنه ولد في تلمسان حوالي عام 1689 وتوفي فيها حوالي عام 1768. هذا الإطار الزمني هو الأكثر منطقية وتوافقاً مع الأحداث والشخصيات التي ذكرها في شعره. هو محمد بن محمد بن مسايب، وتؤكد كل المصادر على أصول عائلته الأندلسية التي هاجرت إلى تلمسان واستقرت بها.
الحائك الذي أصبح شاعراً:
لم يكن بن مسايب من طبقة الأعيان أو العلماء المتفرغين للأدب. بل كان، كما تشير معظم الروايات، حائكاً بسيطاً يعمل في نسج القماش. هذه المهنة لم تكن عائقاً أمام موهبته، بل ربما كانت هي المنبع الذي استلهم منه صبره ودقته في "نسج" قصائده. لقد منحته حياته كحرفي صلة وثيقة بالناس العاديين، وفهماً عميقاً لأفراحهم وأتراحهم، وهو ما انعكس بوضوح في شعره الذي، رغم رقيه، لم يكن أبداً متعالياً أو منفصلاً عن الواقع. كان يرى الجمال في التفاصيل اليومية، ويصوغ من حكايات الحب والخسارة التي يسمعها في محيطه قصائد خالدة. كان مغزل الحائك يصنع القماش، وقلمه يصنع الوجدان.
تكوينه الأدبي والروحي:
على الرغم من بساطة مهنته، من الواضح أن بن مسايب تلقى تعليماً جيداً. فشعره يدل على معرفة عميقة باللغة العربية، والقرآن الكريم، والسيرة النبوية، وتراث الشعر العربي القديم والأندلسي. من المرجح أنه تلقى تعليمه في إحدى زوايا تلمسان التي كانت بمثابة جامعات شعبية. كما أن ارتباطه الوثيق بالبيئة الصوفية للمدينة، وتوقيره الشديد للولي الصالح سيدي بومدين، يدل على تكوين روحي صلب. لقد جمع بن مسايب بين ثقافة الحرفي وثقافة العالم، وهذا هو سر فرادته.
العالم الشعري لابن مسايب: الحب، التصوف، والحياة
يشكل ديوان محمد بن مسايب عالماً متكاملاً، تتعدد فيه الأغراض والمواضيع، لكن يجمع بينها خيط رفيع من الصدق الفني والعمق الإنساني. يمكن تقسيم عالمه الشعري إلى محاور كبرى:
محور العشق: عائشة وفاطمة... من الملهمة إلى الرمز
يكاد يكون الغزل هو الوجه الأكثر شهرة لشعر بن مسايب. لم يكن غزله مجرد وصف للجمال الحسي، بل كان تجربة وجودية كاملة. ارتبط اسمه بملهمتين رئيسيتين: "عائشة" و"فاطمة". يرى بعض الباحثين أنهما شخصيتان حقيقيتان، بينما يرى آخرون أنهما رمزان للمرأة المثالية أو حتى للجمال الإلهي. في قصائده، تتحول الحبيبة إلى قضية مركزية، فغيابها يسبب الألم، وحضورها يجلب النور. قصيدته الشهيرة "مال حبيبي مالو" هي مثال ساطع على هذا النوع من الغزل، حيث يناجي الحبيب ويتساءل عن سبب جفائه بأسلوب يجمع بين اللوعة والعتاب الرقيق. يتميز غزله بقدرته على تصوير أدق الحالات النفسية للعاشق، من الشوق والأمل إلى اليأس والغيرة، كل ذلك بلغة تجمع بين الرقة الدارجة وفخامة التعبير البلاغي.
محور التصوف والمديح: في حضرة الأولياء
يشكل المديح الديني والتصوف ركناً أساسياً في ديوان بن مسايب. كان شاعراً مؤمناً بعمق، ومتأثراً بالبيئة الروحانية لتلمسان. كرس العديد من أروع قصائده لمدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بأسلوب يفيض حباً وشوقاً وتوقيراً. لكن يبقى مدحه لأولياء تلمسان، وعلى رأسهم الولي الصالح سيدي بومدين الغوث، هو العلامة الأبرز في هذا المحور. لم يكن مدحه مجرد تعداد للمناقب، بل كان توسلاً وطلباً للشفاعة والمدد الروحي. في هذه القصائد، نرى الشاعر في قمة ضعفه الإنساني، يلجأ إلى قوة الولي كملاذ من تقلبات الزمن وقسوة الحياة. قصيدته "يا أهل الله" هي نموذج لهذا الشعر الذي يمزج بين التعبير الفني والوجدان الديني الصادق.
محاور أخرى: رثاء، خمرية، ووصف
لم يقتصر إبداع بن مسايب على الغزل والمديح. فقد كتب في الرثاء، حيث بكى أصدقاءه وشيوخه، معبراً عن إحساسه بالفقد والخسارة. كما نظم في "الخمريات" (شعر الخمر)، وهو غرض ورثه عن الشعر العربي القديم، لكنه غالباً ما كان يستخدم الخمر كرمز للوجد الصوفي والنشوة الإلهية، على طريقة كبار المتصوفة. بالإضافة إلى ذلك، نجد في ديوانه قصائد تصف الطبيعة في تلمسان، وقصائد أخرى تتناول الحكمة وتأملات في الحياة والموت، مما يجعل ديوانه سجلاً كاملاً للحياة في عصره.
الأسلوب والتجديد: كيف صاغ بن مسايب لغة الغرناطي
تكمن عبقرية بن مسايب الحقيقية في أسلوبه، فهو لم يكن مجرد ناظم للكلمات، بل كان مجدداً حقيقياً ساهم في تشكيل هوية شعر الملحون الغرناطي. يمكن تلخيص خصائصه الأسلوبية في الآتي:
لغة الحياة اليومية في حلة الفصاحة:
أعظم إنجازات بن مسايب هو أنه أثبت أن اللهجة التلمسانية الدارجة يمكن أن تكون لغة شعرية راقية. كان يلتقط الكلمات والتعابير من الحياة اليومية، من حديث الناس في الأسواق والمقاهي، ثم يصقلها ويطعمها بجماليات اللغة العربية الفصحى، من استعارات وتشبيهات وجناس. والنتيجة هي لغة فريدة، تبدو بسيطة وعفوية، لكنها في الحقيقة مبنية بإحكام ودقة، تصل إلى قلب العامي والمثقف على حد سواء.
البناء الموسيقي للقصيدة:
كان بن مسايب يكتب شعره وهو يفكر في الغناء. قصائده ليست مجرد نصوص أدبية، بل هي مشاريع موسيقية متكاملة. بنية القصيدة، توزيع القوافي، والإيقاع الداخلي للأبيات، كلها مصممة لتتلاءم تماماً مع مقامات (طبوع) وإيقاعات (موازين) موسيقى الغرناطي. لهذا السبب، شكل ديوانه المادة الخام التي بُني عليها الجزء الأكبر من ريبرتوار الغرناطي. العلاقة بين شعره والموسيقى ليست علاقة تزيين، بل هي علاقة عضوية، حيث لا يمكن فصل الكلمة عن اللحن.
قوة الصورة الشعرية:
يتميز شعر بن مسايب بصوره الشعرية المبتكرة والحية. كان قادراً على تحويل الأفكار المجردة والمشاعر الدفينة إلى صور حسية ملموسة. عندما يصف لوعته، تشعر بحرارة الجمر. وعندما يمدح ولياً، تشعر بنور الكرامات. هذه القدرة على "التجسيد" هي التي تمنح شعره قوته التأثيرية وتجعله خالداً في الذاكرة.
الإرث الخالد: الشاعر الذي لا يزال يغني
توفي محمد بن مسايب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لكن شعره لم يمت. لقد ترك إرثاً هائلاً لا يزال حياً ومتجدداً حتى اليوم. يمكن تلخيص إرثه في نقاط أساسية:
حجر الزاوية في تراث الغرناطي:
يشكل ديوان بن مسايب الجزء الأكبر والأهم من المدونة الشعرية لموسيقى الغرناطي. لا يمكن لأي جوقة غرناطية أن تؤدي نوبة كاملة دون أن تغني عدة قصائد لابن مسايب. لقد أصبح اسمه مرادفاً لهذا الفن، وأصبحت قصائده هي الاختبار الحقيقي لأي مغنٍ أو عازف يريد إثبات تمكنه من "الصنعة".
مدرسة شعرية متكاملة:
أثر بن مسايب في كل شعراء الملحون الذين أتوا بعده في تلمسان والغرب الجزائري. لقد وضع معايير فنية عالية، وأرسى تقاليد شعرية سار على نهجها الآخرون. أصبح أسلوبه في معالجة المواضيع، وفي بناء القصيدة، وفي توظيف اللغة، مدرسة قائمة بذاتها.
الحفاظ على الهوية التلمسانية:
يُعتبر ديوان بن مسايب أهم وثيقة أدبية تحفظ لهجة تلمسان وعاداتها وتقاليدها وثقافتها في القرن الثامن عشر. من خلال شعره، يمكننا أن نعيد بناء صورة حية ودقيقة للمجتمع التلمساني في تلك الفترة. لقد كان بحق "ذاكرة مدينة".
خاتمة: بن مسايب... صوت تلمسان الأبدي
في نهاية المطاف، يبقى محمد بن مسايب ظاهرة فريدة في تاريخ الأدب الجزائري والمغاربي. هو الشاعر الحرفي الذي ارتقى بلغة العامة إلى مصاف الفن الرفيع. وهو العاشق الذي حوّل تجربته الشخصية إلى أناشيد للحب الإنساني. وهو المتصوف الذي جعل من الشعر جسراً بين الأرض والسماء. لقد استطاع أن يمسك بروح مدينته تلمسان، وينفخ فيها من عبقريته، ليخلق منها شعراً يشبهها: أصيلاً، عميقاً، وجميلاً بجمال خالد. بعد مرور أكثر من قرنين ونصف على رحيله، لا يزال صوت بن مسايب يتردد في كل نوبة غرناطية، شاهداً على أن الفن الحقيقي، عندما ينبع من صدق التجربة وعمق الإحساس، لا يمكن أن يموت.
مصادر ومراجع موثوقة
- "Les Poètes populaires du Maghreb et leur œuvre" (الشعراء الشعبيون في المغرب العربي وأعمالهم) - تأليف هنري بيريس.
- "La poésie populaire (melhun) au Maghreb" (الشعر الشعبي - الملحون - في المغرب العربي) - تأليف أحمد العمري.
- أعمال وأبحاث رشيد العاوش (Rachid Aous)، الباحث المتخصص في موسيقى الغرناطي.
- ديوان محمد بن مسايب، الذي تم جمعه وتحقيقه في طبعات متعددة من قبل باحثين جزائريين وفرنسيين.
- منشورات وأبحاث مركز الدراسات الأندلسية في تلمسان.
- المقالات الأكاديمية المنشورة في "Revue Africaine" وغيرها من المجلات المتخصصة في تاريخ وثقافة شمال أفريقيا.