مقدمة: الكاردينال الذي أعطى للشعب صوتاً
في تاريخ الفنون، هناك مبدعون يتركون بصمة، وهناك قلّة نادرة يصبحون هم الفن ذاته. الحاج محمد العنقاء ينتمي إلى هذه القلّة. لم يكن مجرد مغنٍ أو عازف، بل كان مهندساً اجتماعياً وثقافياً، استطاع أن يستلهم روح أزقة القصبة العتيقة، ويمزجها بتراث المدائح الدينية الأندلسية، ليصنع منها فناً جديداً هو "الشعبي". هذا الفن الذي أصبح نبض الشارع الجزائري وصوته وضميره. لقبوه بـ "الكاردينال" و"بابا الشعبي" ليس فقط لصورته المهيبة في شيخوخته، بل لأنه وضع "دستور" هذا الفن، وحدد قواعده، وخرّج أجيالاً من العمالقة الذين حملوا رسالته. قصة العنقاء ليست مجرد سيرة فنان، بل هي قصة ولادة هوية موسيقية من رحم مجتمع كان يبحث عن ذاته، فوجدها في صوت رجل واحد ومندول واحد. هذا المقال هو غوص في أعماق مسيرة هذا العملاق، منذ خطواته الأولى في القصبة، مروراً بلقائه المصيري بأستاذه الشيخ الناظور، وصولاً إلى اللحظة التي حلّق فيها بفن الشعبي كطائر عنقاء لا يموت.
النشأة في القصبة: حيث يُولد اللحن قبل الكلمات
في العشرين من مايو عام 1907، وفي قلب قصبة الجزائر العتيقة، وُلد طفل حمل اسم آيت أوعراب محمد إيدير حالو. لم يكن أحد يعلم أن هذا الطفل، الذي تعود جذور عائلته إلى منطقة آيت جنّاد في بلاد القبائل، سيصبح يوماً ما الحاج محمد العنقاء، الاسم الذي سيترادف مع أعظم فن موسيقي أنجبته الجزائر في القرن العشرين. كانت القصبة في تلك الفترة أكثر من مجرد حي، كانت عالماً قائماً بذاته، بوتقة تنصهر فيها ثقافات متعددة: عربية، أمازيغية، أندلسية، وتركية. كانت أزقتها الضيقة مسرحاً للحياة بكل تفاصيلها، وكانت مقاهيها وحلقات الحكي (الحلقة) فيها مدارس شعبية مفتوحة، يتلقى فيها الصغار الحكمة والقصص والألحان.
نشأ محمد الصغير في هذا الجو المشبع بالفن. كانت أذناه تلتقطان كل شيء: أصوات الباعة، تلاوات القرآن من الكتاتيب، حكايات المداحين، والأهم من ذلك، أنغام الموسيقى الأندلسية التي كانت تعزف في حفلات الزفاف والختان وفي المقاهي. كان هذا الفن، الذي يُعرف بـ "المدح" أو "الصنعة"، هو أرقى أشكال التعبير الموسيقي آنذاك، وكان يقوده شيوخ كبار يحظون باحترام الجميع. كان محمد إيدير، الفتى الشغوف، ينجذب بشكل خاص إلى هذه الأجواق، يتبعها من حفل إلى حفل، لا يمل من مراقبة العازفين وحفظ الألحان عن ظهر قلب. لقد كانت القصبة هي مدرسته الأولى، وكانت دروسها تُلقّن في الهواء الطلق، على إيقاع الحياة اليومية، فتشرب الفن كما يتشرب الهواء، وأصبح اللحن جزءاً من تكوينه قبل أن يتعلم القراءة والكتابة.
اللقاء المصيري: الشيخ الناظور والتلميذ الذي سيفوق أستاذه
كل أسطورة لها بداية، وبداية أسطورة العنقاء كانت رجلاً اسمه الشيخ مصطفى الناظور. لم يكن الناظور مجرد موسيقي، بل كان أحد أعمدة فن المدح الديني في الجزائر العاصمة، وهو فن متفرع مباشرة من الموسيقى الأندلسية. كان الشيخ يتمتع بسمعة كبيرة، ويقود جوقاً مرموقاً يحيي أكبر الحفلات. كان الفتى محمد إيدير مفتوناً بهذا الشيخ، يراقبه بإعجاب شديد، ويحلم بالانضمام إلى جوقته.
القصة الحقيقية للقاء:
تروي المصادر الموثوقة، ومنها شهادات معاصري العنقاء نفسه، أن الفرصة جاءت بشكل غير متوقع. في عام 1917، وكان محمد إيدير يبلغ من العمر عشر سنوات فقط، كان الشيخ الناظور يحيي حفل ختان. شاءت الأقدار أن يتغيب عازف الدربوكة (الطار) في الجوقة. ساد القلق، فوجود الإيقاع أساسي. هنا، تقدم أحد أصدقاء والد محمد، الذي كان يعلم بشغف الصبي وقدرته على تقليد العازفين، واقترحه على الشيخ الناظور كبديل. نظر الشيخ إلى هذا الصبي النحيل بتردد، لكن أمام إصرار الحاضرين، وافق على منحه فرصة. أمسك محمد بالطار، وما إن بدأت المعزوفة حتى اندهش الجميع، بمن فيهم الشيخ الناظور نفسه. لم يكن الصبي مجرد ضابط للإيقاع، بل كان يعزف بحس فني عالٍ ودقة مذهلة، كأنه فرد من الجوقة منذ سنوات. في تلك الليلة، أدرك الشيخ الناظور أنه أمام موهبة استثنائية.
فترة التلمذة:
بعد هذه الواقعة، ضم الشيخ الناظور الفتى محمد إيدير رسمياً إلى جوقته. كانت هذه هي فترة التكوين الحقيقية. على مدى تسع سنوات (من 1917 إلى 1926)، كان العنقاء تلميذاً نجيباً للشيخ الناظور. لم يتعلم منه العزف على المندول والرباب فقط، بل تشرب منه أصول الصنعة الأندلسية، مقاماتها (الطبوع)، موازينها الإيقاعية، وقصائدها الشعرية. علّمه الشيخ الناظور الانضباط، ودقة الأداء، واحترام الفن والجمهور. كانت هذه الفترة هي الأساس المتين الذي بنى عليه العنقاء كل مجده لاحقاً.
موت الأستاذ وولادة الشيخ الجديد:
في عام 1926، توفي الشيخ الناظور بشكل مفاجئ، تاركاً فراغاً كبيراً في الساحة الفنية. وجد أعضاء الجوقة أنفسهم بدون قائد. وبشكل شبه إجماعي، وقع اختيارهم على التلميذ النجيب، محمد إيدير حالو، الذي كان يبلغ من العمر 19 عاماً فقط، ليخلف أستاذه. لم يكن الاختيار عاطفياً، بل كان اعترافاً بموهبته الفذة وبأنه الأكثر تمكناً من "الصنعة" بعد شيخه الراحل. كانت هذه هي اللحظة التي انتقل فيها من مجرد "محمد" إلى "الشيخ محمد"، وبدأت رحلته كقائد، وهي الرحلة التي ستغير وجه الموسيقى في الجزائر إلى الأبد.
ولادة الشعبي: كيف حوّل العنقاء "المدح" إلى فن الشعب
بعد توليه قيادة الجوقة، لم يكتفِ الشاب محمد العنقاء بالحفاظ على إرث أستاذه، بل بدأ رحلة من التجريب والتجديد، مدفوعاً بعبقرية فطرية وفهم عميق لروح مجتمعه. لقد أدرك أن فن "المدح" الأندلسي، برغم رقيه، كان فناً نخبوياً، بقواعده الصارمة وأجوائه الرسمية. كان يطمح لخلق موسيقى تشبه الناس العاديين، تتحدث لغتهم، وتعبر عن أفراحهم وأحزانهم وحكمتهم. من هنا، بدأت عملية ولادة "الشعبي".
ثورة المندول:
كانت أولى وأعظم ثورات العنقاء هي الآلة الموسيقية. كانت آلة المندول موجودة، لكنها كانت صغيرة الحجم ومحدودة الصوت. عمل العنقاء مع أمهر الصناع، مثل الإيطالي جون-بيليدو، لتطوير الآلة. قام بتكبير صندوقها الصوتي، وأطال رقبتها، وأعاد ترتيب أوتارها، ليخلق آلة جديدة بصوت عميق ورخيم، قادرة على حمل اللحن والإيقاع في آن واحد. أصبح المندول في يد العنقاء ليس مجرد آلة، بل جوقة كاملة، والعمود الفقري لفن الشعبي.
تبسيط الهيكل وتوسيع الشعر:
قام العنقاء بتبسيط الهيكل المعقد للنوبة الأندلسية، وجعل القصيدة الطويلة (القَصيد) هي محور الأداء. لكنه لم يكتفِ بالقصائد الدينية التي كانت سائدة في المدح. غاص في بحر الشعر الملحون المغربي والجزائري، وأخرج كنوزاً لشعراء مثل سيدي لخضر بن خلوف، ومحمد بن مسايب، وعبد الله بن كريو. تناول قصائد تتحدث عن الحكمة، والغربة، والحب، والنقد الاجتماعي، والفلسفة. لقد جعل الشعبي مدرسة للشعر والأخلاق، وليس مجرد ترفيه موسيقي.
تأسيس القواعد:
وضع العنقاء هيكلاً شبه ثابت لأداء أغنية الشعبي، يبدأ بمقدمة موسيقية حرة غير موقعة تسمى "الاستخبار"، يستعرض فيها العازف براعته في مقام معين. ثم يأتي "المدخل" و "القرار" (اللازمة)، تليهما "أبيات" القصيدة التي تُغنى بلحن رتيب وهادئ، يتخللها عزف منفرد (جوابات) يبرز جمال اللحن. هذا التنظيم جعل الفن الجديد منظماً وسهل التلقي، وفتح الباب أمام إبداعات لا حصر لها ضمن هذا القالب.
ولادة الاسم:
في البداية، لم يكن لهذا الفن اسم محدد. لكن في أواخر الأربعينات، أطلق عليه الموسيقي والمثقف، الهاشمي بودالي سفير، اسم "الشعبي"، أي "فن الشعب"، تمييزاً له عن "الصنعة" الأندلسية الأكثر كلاسيكية. التصق الاسم بالفن لأنه كان التوصيف الأدق لجوهر رسالة العنقاء: فن من الشعب وإلى الشعب.
مدرسة العنقاء: الأستاذ الذي أصبح مؤسسة
لم يكن تأثير الحاج محمد العنقاء مقتصراً على إبداعاته الشخصية، بل تحول الرجل في حياته إلى مؤسسة تعليمية وتربوية متكاملة، ضمنت استمرارية فن الشعبي وتطوره. لقد أدرك بذكائه أن الفن يموت إذا لم يتم توريثه، فكرّس جزءاً كبيراً من حياته لنقل معرفته إلى الأجيال الجديدة، ليصبح "شيخ الشيوخ" بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
الانتشار عبر الأثير والتسجيل:
كان العنقاء من أوائل الفنانين الذين أدركوا قوة وسائل الإعلام الحديثة. فمنذ أواخر العشرينات، بدأ في تسجيل أسطواناته الأولى، التي حملت فنه الجديد إلى كل بيت في الجزائر وخارجها. ومع تأسيس الإذاعة الجزائرية، أصبح له حضور دائم عبر الأثير، فكانت حفلاته المباشرة دروساً جماعية في الشعر والموسيقى، ينتظرها الجمهور بشغف. لقد سجل العنقاء خلال مسيرته الفنية الحافلة ما يقارب 360 أغنية، تشكل اليوم الأرشيف المرجعي الأول لفن الشعبي.
كونسرفتوار الشعبي:
في عام 1955، خطا العنقاء خطوة تاريخية، حيث تولى التدريس في الكونسرفتوار (المعهد الموسيقي) بالجزائر العاصمة. كانت هذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها فن الشعبي، الذي نشأ في المقاهي والأعراس، إلى مؤسسة أكاديمية رسمية. من خلال هذا القسم، قام العنقاء بتعليم العشرات من التلاميذ وفق منهجية واضحة، مرسخاً القواعد التي وضعها، ومحافظاً على أصول الصنعة التي ورثها. لقد حوّل الشعبي من فن شفوي إلى علم له أصوله وقواعده.
جيل التلاميذ العمالقة:
إن أعظم دليل على نجاح مدرسة العنقاء هو نوعية التلاميذ الذين تخرجوا على يديه، والذين أصبحوا نجوماً كباراً وأعمدة للشعبي فيما بعد. من أبرز هؤلاء العمالقة: الهاشمي قروابي، الذي تميز بصوته القوي وأدائه المسرحي؛ بوجمعة العنقيس، الذي اشتهر بأداء الأغاني الخفيفة والنقدية؛ وعمر الزاهي، الذي أصبح أسطورة في حد ذاته، وعرف بأسلوبه الصوفي المتفرد وعزوفه عن الأضواء. كل هؤلاء، وغيرهم الكثير، وإن كان لكل منهم أسلوبه الخاص، إلا أنهم جميعاً يعترفون بأنهم أبناء مدرسة العنقاء، وأنهم نهلوا من معينه الذي لا ينضب.
خاتمة: العنقاء... الصدى الخالد للقصبة
في 23 نوفمبر 1981، رحل الحاج محمد العنقاء عن عالمنا، لكن صوته لم يرحل. لقد ترك وراءه إرثاً أضخم من أن يُختزل في أغانيه، ترك فناً كاملاً أصبح هوية لمدينة ووطن. العنقاء لم يؤسس الشعبي فحسب، بل أعطى للجزائريين مرآة فنية يرون فيها تاريخهم، وحكمتهم، وروح الدعابة لديهم، وقدرتهم على تحويل الألم إلى جمال. لقد أخذ فناً نخبوياً (المدح) وأهداه للشعب، فاحتضنه الشعب وجعله نشيده اليومي.
اليوم، وبعد عقود من رحيله، لا تزال صورة "الكاردينال" بشعره الأبيض ونظارته ومندوله الأسطوري، تمثل أيقونة ثقافية مطلقة. ولا يزال صوته يتردد في أزقة القصبة، وفي كل بيت جزائري، ليس كذكرى من الماضي، بل كحقيقة حية ومستمرة. لقد كان اسماً على مسمى، "عنقاء" حقيقية، كلما ظننا أنها احترقت وانتهت، انبعثت من جديد في صوت كل شيخ شاب، وفي أوتار كل مندول، لتحلق بفن الشعبي عالياً نحو الخلود.
مصادر ومراجع موثوقة
- "El Anka et les maîtres du chaâbi" (العنقاء وأساتذة الشعبي) - تأليف سعدان بن أمان.
- أعمال وأبحاث عبد القادر بن دعماش، المؤرخ المتخصص في الشعبي.
- "La chanson chaâbi" (الأغنية الشعبية) - تأليف رشيد براهيم جلول.
- شهادات حية وتاريخ شفوي منقول عن تلاميذه الكبار مثل الهاشمي قروابي وبوجمعة العنقيس.
- الأرشيف السمعي للمكتبة الوطنية الجزائرية والإذاعة الجزائرية.
- أفلام وثائقية من إنتاج التلفزيون الجزائري حول حياة العنقاء وتاريخ الشعبي.