قصة هجرة الفن الأندلسي إلى الجزائر و احتضانه

الفن الأندلسي في الجزائر: قصة هجرة وإبداع وثلاث مدارس خالدة

الفن الأندلسي في الجزائر: قصة هجرة وإبداع وثلاث مدارس خالدة

مقدمة: عندما يعبر الفن الحدود ليصنع وطناً جديداً

ليست كل الهجرات قصصاً للحزن والفقد، فبعضها يحمل في طياته بذور حياة جديدة وثقافات تولد من رحم المعاناة. هكذا هي حكاية الفن الأندلسي مع الجزائر، حكاية نهر من الألحان والكلمات تدفق من الفردوس المفقود ليستقر في أرض احتضنته، وروته بوجدانها، فأنبت ثلاث أزهار فنية فريدة: الصنعة، الغرناطي، والمالوف. إنها قصة بقاء إرث حضاري عظيم لم يندثر بسقوط الممالك، بل وجد في مدن الجزائر الثلاث -العاصمة وقسنطينة وتلمسان- قلوباً وعقولاً صانته، وطورته، ومنحته هوية جزائرية أصيلة. هذا المقال هو رحلة عبر الزمن، نتتبع فيها خيوط هذا الفن العريق منذ عبوره البحر، ونستكشف كيف تحول إلى مدارس شامخة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من روح الجزائر وتراثها الخالد.

الهجرة الأندلسية: نهر من الثقافة يصب في الجزائر

بدأت القصة مع بداية أفول شمس الأندلس. فمع اشتداد حروب الاسترداد وسقوط المدن الأندلسية تباعاً، من قرطبة وإشبيلية وبلنسية وصولاً إلى غرناطة عام 1492، بدأت موجات هجرة كبرى للمسلمين الأندلسيين (الموريسكيين) باتجاه الضفة الجنوبية للمتوسط. كانت بلاد المغرب العربي، والجزائر على وجه الخصوص، هي الوجهة الطبيعية والأقرب وجدانياً وجغرافياً. لم يحمل هؤلاء المهاجرون أمتعتهم فحسب، بل حملوا معهم خلاصة ثمانية قرون من الحضارة والعلوم والفنون.

كان من بين أثمن ما حملوه هو موسيقاهم، ذلك الفن الراقي الذي تطور في قصور الخلفاء والأمراء، ومزج بين التقاليد الموسيقية الشرقية والمغاربية والإيبيرية. استقرت هذه العائلات الأندلسية في المدن الجزائرية الكبرى التي كانت آنذاك مراكز حضرية مزدهرة، مثل تلمسان، الجزائر العاصمة، وقسنطينة. وفي هذه المدن، وجد الفن الأندلسي بيئة خصبة ليس فقط للحفاظ عليه، بل للتفاعل مع الثقافات المحلية والتطور، ليبدأ فصلاً جديداً من تاريخه، فصلٌ جزائري بامتياز.

ولادة المدارس الثلاث: هوية جزائرية لإرث أندلسي

لم يكن الفن الأندلسي الذي وصل إلى الجزائر كتلة واحدة متجانسة، بل كان يحمل بصمات المدن التي جاء منها. فموسيقى قرطبة تختلف بمهابتها عن موسيقى إشبيلية الرقيقة، وكلاهما يختلف عن موسيقى غرناطة التي حملت آخر فصول المأساة والجمال. هذا التنوع انعكس بشكل مباشر على الطبوع التي تشكلت في الجزائر، حيث يمكننا تمييز ثلاث مدارس كبرى، كل واحدة منها ترتبط بمدينة أندلسية وتتمركز في مدينة جزائرية:

1. مدرسة الغرناطي في تلمسان: وريثة مملكة غرناطة

تعتبر تلمسان، بحكم قربها الجغرافي وعلاقاتها التاريخية الوثيقة مع مملكة غرناطة، الوريث المباشر للمدرسة الغرناطية. استقبلت المدينة آخر موجات المهاجرين بعد سقوط غرناطة، والذين جلبوا معهم أحدث أشكال النوبة الأندلسية. يتميز طابع الغرناطي برقته وشجنه، وبمحافظته على الإرث الشعري الغرناطي، خاصة قصائد ابن زمرك وابن الخطيب. آلاته الموسيقية الأساسية تشمل الكمان، العود، القانون، الرباب، الدربوكة، مع حضور قوي لآلة المندولين. يُعرف أداء الغرناطي بأنه أكثر مرونة وتحرراً في الإيقاع مقارنة بالمدارس الأخرى.

2. مدرسة الصنعة في الجزائر العاصمة: صدى قرطبة العريق

تمركزت في الجزائر العاصمة وضواحيها (مثل شرشال والبليدة) مدرسة "الصنعة"، التي تُرجع أصولها إلى التقاليد الموسيقية لمدينة قرطبة، عاصمة الخلافة الأموية في الأندلس. يتميز طابع الصنعة بأسلوبه الفخم والمهيب، وببنيته الإيقاعية الصارمة والمحكمة. يُعتبر هذا الطابع أكثر كلاسيكية، ويولي أهمية كبرى للجانب الآلي (المقدمات والافتتاحيات الموسيقية). يُهيمن على الصنعة استخدام آلات مثل الكويترة (عود بأربعة أوتار)، الرباب، الكمان، والعود العربي، مع إيقاعات دقيقة تؤديها الدربوكة والطار.

3. مدرسة المالوف في قسنطينة: روح إشبيلية وشرق الجزائر

في شرق الجزائر، وتحديداً في مدينة قسنطينة "مدينة الجسور المعلقة"، تبلورت مدرسة "المالوف". كلمة "مالوف" تعني "المألوف" أو "المعتاد"، في إشارة إلى تمسك أهلها بالتقاليد الموسيقية التي ألفوها وورثوها. تُرجع هذه المدرسة أصولها إلى التقاليد الموسيقية لمدينة إشبيلية، وتتميز بتأثرها بالأنماط الموسيقية العثمانية التي وصلت إلى المنطقة لاحقاً، مما منحها طابعاً فريداً يجمع بين الرقة الأندلسية والزخارف الشرقية. يعتمد المالوف بشكل كبير على الجانب الصوتي والجوقة، وتبرز فيه آلات مثل العود العربي، الكمان، الناي، والنقارات (طبل صغير). يُعرف المالوف بأجوائه الروحانية وغالباً ما يرتبط بالزوايا والطرق الصوفية.

الاحتضان الجزائري: من تراث النخبة إلى قلب المجتمع

لم يبقَ الفن الأندلسي في الجزائر حبيس الصالونات المغلقة أو حكراً على العائلات ذات الأصول الأندلسية. بل سرعان ما تبناه المجتمع الجزائري بأسره، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من هويته الثقافية. لقد وجد هذا الفن مكانه في كل مناسبات الحياة الجزائرية، من حفلات الزفاف والختان، إلى الاحتفالات الدينية والموالد النبوية، وجلسات السمر العائلية.

لعبت الزوايا والطرق الصوفية دوراً محورياً في الحفاظ على هذا التراث، خاصة المالوف، حيث استخدمت قصائده ونوباته في مجالس الذكر والسماع الصوفي. كما قامت العائلات الجزائرية العريقة، جيلاً بعد جيل، بدور الحافظ الأمين لهذا الفن، حيث كان يُورّث شفهياً من الأستاذ (الشيخ) إلى تلاميذه، في نظام دقيق يضمن عدم ضياع أي لحن أو قصيدة. وبهذا الاحتضان الشعبي والرسمي، تحولت الموسيقى الأندلسية من إرث مهاجر إلى كنز وطني جزائري، ورمز للأصالة والرقي الفني.

خاتمة: الجزائر... الحارس الأمين للفردوس المفقود

إن قصة الفن الأندلسي في الجزائر هي شهادة حية على قدرة الثقافات على البقاء والتجدد عندما تجد بيئة تحتضنها وتقدرها. لم تكن الجزائر مجرد محطة استقبال، بل كانت وطناً بديلاً وورشة إبداعية كبرى، تحول فيها الإرث الأندلسي الواحد إلى ثلاثة فروع يانعة، لكل منها لونه وعطره الخاص، لكنها جميعاً تعود إلى نفس الجذر الأندلسي العريق، وترتوي من نفس التربة الجزائرية الأصيلة. اليوم، تقف مدارس الصنعة والغرناطي والمالوف شامخة كأعمدة للهوية الثقافية الجزائرية، وتثبت للعالم أن الجزائر لم تحافظ على هذا الكنز فحسب، بل أضافت إليه من روحها، لتظل الحارس الأمين على أنغام الفردوس المفقود.

مصادر ومراجع للاستزادة

  • "La Musique arabo-andalouse" by Christian Poché. (كتاب "الموسيقى العربية الأندلسية" للباحث كريستيان بوشيه).
  • "Algérie: Les maîtres de la musique arabo-andalouse" by Rachid Brahim Djelloul. (كتاب "الجزائر: أساتذة الموسيقى العربية الأندلسية" للباحث رشيد براهيم جلول).
  • أعمال وأبحاث محمود قطاط حول موسيقى المغرب العربي.
  • منشورات المهرجان الدولي للموسيقى الأندلسية والموسيقى العتيقة بالجزائر.
  • الأرشيف السمعي البصري للإذاعة والتلفزيون الجزائري الذي يضم تسجيلات نادرة لشيوخ المدارس الثلاث.
معلومات حقوق النشر

هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.

نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق