الهاشمي قروابي: صوت الجزائر العميق وسلطان "الذبحة" في فن الصنعة والشعبي
الهاشمي قروابي: صوت الجزائر العميق وسلطان "الذبحة" في فن الصنعة والشعبي
مقدمة: الصوت الذي لا يُنسى
في بانثيون عمالقة فن الشعبي الجزائري، هناك أصوات خالدة وأصوات فريدة، وصوت الشيخ الهاشمي قروابي (1938-2006) يجمع بين الخلود والتفرد. هو ليس مجرد فنان أدى القصائد ولحنها، بل هو حالة فنية متكاملة، ظاهرة صوتية استثنائية، ومدرسة في الأداء والإحساس استطاعت أن تحفر اسمها بأحرف من ذهب في تاريخ الموسيقى المغاربية.
عندما نتحدث عن القروابي، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو تلك "الذبحة" أو البحة الحزينة التي ميزت صوته، تلك القدرة العجيبة على تحويل الكلمة إلى لوعة، واللحن إلى شكوى، والقصيدة إلى حكاية تلامس أعمق مشاعر المستمع. لقد كان القروابي جسراً حقيقياً بين موسيقى "الصنعة" الأندلسية العريقة، وبين فن "الشعبي" في صورته الأكثر حداثة وعصرية، فبرع في أداء "الانصرافات" الأندلسية بنفس البراعة التي أدى بها قصائد الملحون الاجتماعية التي تعبر عن نبض الشارع.
في هذا المقال، سنسافر عبر مسيرة هذا الفنان الأسطوري، بدءاً من نشأته في حي "المرادية" العتيق، مروراً بتكوينه الفني، وسنحاول تحليل سر أسلوبه الاستثنائي، ونتوقف عند أبرز أعماله الخالدة مثل "البارح" و "الورقة"، لنكتشف معاً كيف استطاع الهاشمي قروابي أن يصبح صوتاً للجزائر، يعبر عن أفراحها وأحزانها، وعن حنينها الدائم إلى زمن الأصالة والجمال.
النشأة والتكوين: من المرادية إلى مسارح العالم
المولد في قلب العاصمة
وُلد الهاشمي قروابي في 2 يناير 1938 في حي "المرادية" (La Redoute سابقاً)، أحد الأحياء الشعبية العريقة في أعالي الجزائر العاصمة. نشأ في بيئة بسيطة، لكنها كانت غنية ثقافياً وفنياً. كانت الأحياء الشعبية في ذلك الوقت هي الخزان الحقيقي للتراث، حيث المقاهي تعج بجلسات الشعبي، وحيث يمكن للشاب الموهوب أن يستمع مباشرة إلى كبار الشيوخ ويتعلم منهم.
التكوين الفني: بين الموهبة والتعلم
ظهرت موهبة القروابي مبكراً، وبدأ مسيرته الفنية في الخمسينيات من القرن الماضي. لم يكن طريقه مفروشاً بالورود، بل كان طريقاً من الكفاح والمثابرة. تأثر في بداياته بعميد الأغنية الشعبية، الحاج محمد العنقى، الذي كان بمثابة الأب الروحي لكل فناني الشعبي. لكن القروابي لم يكن مجرد مقلد، بل استطاع منذ البداية أن يجد لنفسه صوتاً وأسلوباً خاصاً.
انضم إلى عدة أجواق موسيقية، وشارك في حفلات الأعراس والمناسبات، وهي المدرسة الحقيقية التي صقلت موهبته وجعلته يحتك مباشرة بالجمهور ويتعلم كيفية التفاعل معه. سافر إلى فرنسا في شبابه، وهناك سجل أولى أسطواناته التي لاقت نجاحاً كبيراً، خاصة بين أفراد الجالية الجزائرية التي وجدت في صوته الحزين تعبيراً عن غربتها وحنينها للوطن.
الأسلوب القروابي: سر "الذبحة" والتميز
ما الذي جعل الهاشمي قروابي فناناً استثنائياً؟ الإجابة تكمن في مزيج فريد من الموهبة الفطرية، والذكاء الفني، والإحساس الصادق.
"الذبحة": بصمة الصوت الخالدة
الخاصية الأكثر تميزاً في صوت القروابي هي تلك البحة أو "الذبحة" التي كانت تطبع أداءه. هي ليست مجرد عيب صوتي، بل هي جوهر فنه. هذه البحة كانت تضفي على صوته شحنة عاطفية هائلة، تجعل المستمع يشعر بصدق الكلمات وعمق الألم أو الفرح الذي يعبر عنه. سواء كانت هذه البحة طبيعية أم تقنية طورها مع الزمن، فقد أصبحت هي بصمته التي لا تخطئها أذن. كانت "الذبحة" هي الأداة التي يحول بها القصيدة من مجرد نص مغنى إلى تجربة وجدانية عميقة.
الأداء المسرحي الأنيق
لم يكن القروابي مجرد مؤدٍ، بل كان "فناناً" بكل ما تحمله الكلمة من معنى. تميز بحضوره المسرحي الأنيق، فغالباً ما كان يظهر ببدلته البيضاء الناصعة، وبابتسامته الهادئة التي تخفي وراءها شجناً عميقاً. كان تفاعله مع الجوق ومع الجمهور مدروساً، يعتمد على الإشارة والنظرة، مما يضفي على حفلاته جواً من الاحترام والوقار.
التجديد في الشعبي
يعتبر القروابي من أهم المجددين في فن الشعبي. فبينما حافظ على القالب التقليدي للقصيدة، إلا أنه أدخل عليها لمسات عصرية، سواء في التوزيع الموسيقي، أو في اختيار المواضيع. هو الذي فتح باب الشعبي أمام جيل جديد من المستمعين، وجعله فناً قادراً على التعبير عن قضايا العصر وهموم الإنسان المعاصر، كما فعل في أغنيته الشهيرة "البارح".
سلطان "الانصرافات": الجسر بين الصنعة والشعبي
ما هو الانصراف؟
في بنية "النوبة" الأندلسية، "الانصراف" هو قطعة غنائية تأتي في الجزء الأخير من النوبة، وتتميز بإيقاعها السريع والراقص (غالباً 6/8). هو بمثابة الخاتمة المبهجة التي تنهي الجلسة الموسيقية بجو من الحيوية والنشاط. يتطلب أداء الانصرافات مهارة عالية من المغني والعازفين، نظراً لسرعة الإيقاع وكثافة الزخارف اللحنية.
براعة القروابي في أداء الانصرافات
لقد كان الهاشمي قروابي سيداً متوجاً في أداء الانصرافات. فبينما يميل الكثير من مؤدي الشعبي إلى التركيز على القصائد الطويلة ذات الإيقاعات البطيئة والمتوسطة، كان القروابي يمتلك قدرة فريدة على الانتقال إلى عالم الانصرافات السريع بنفس العمق والإحساس. تميز أداؤه بالآتي:
- الدقة الإيقاعية: رغم سرعة الإيقاع، كان يحافظ على دقة متناهية في نطق الكلمات ووضعها في مكانها الصحيح داخل الميزان الإيقاعي.
- الوضوح اللفظي: لم تكن السرعة تؤثر على وضوح مخارج الحروف لديه، فكان المستمع يستطيع أن يفهم كل كلمة بوضوح تام.
- الإحساس المتدفق: الأهم من ذلك، أنه كان قادراً على شحن هذه القطع السريعة بنفس الإحساس والشجن الذي يميز أداءه للقصائد البطيئة، وهو ما لا يستطيعه إلا فنان كبير.
ببراعته هذه، كان القروابي بمثابة جسر حقيقي يربط بين عالم "الصنعة" الأندلسي الأرستقراطي، وعالم "الشعبي" الشعبي، مؤكداً أن كلاهما ينبع من نفس الروح الفنية الأصيلة.
أغانيه الشخصية: "البارح" و "الورقة" كنماذج
بالإضافة إلى أدائه الرائع للقصائد التراثية، ترك الهاشمي قروابي بصمته الخاصة من خلال أغانٍ أصبحت جزءاً من الذاكرة الجماعية للجزائريين.
"البارح كان في عمري عشرين"
هذه الأغنية ليست مجرد قطعة فنية، بل هي نشيد جيل بأكمله. تعبر الأغنية عن حنين وأسى الإنسان على أيام الشباب التي مضت. بكلمات بسيطة ومباشرة، ولحن شجي، استطاع القروابي أن يلامس وتراً حساساً لدى كل مستمع. "البارح" أصبحت رمزاً للنوستالجيا، ومرثية للزمن الجميل الذي لا يعود.
"الورقة"
هي قصيدة ملحون قديمة، لكن أداء القروابي لها جعلها وكأنها أغنيته الخاصة. تحكي القصيدة قصة "ورقة" (رسالة) يرسلها مغترب إلى أهله، يصف فيها شوقه ومعاناته في بلاد الغربة. بصوته الحزين المتهدج، استطاع القروابي أن يجسد ألم كل مغترب، وأصبحت "الورقة" هي النشيد الرسمي للحنين إلى الوطن.
حفل اليونسكو 1995: الشعبي يصل إلى العالمية
في عام 1995، وقف الهاشمي قروابي على مسرح منظمة اليونسكو العريق في باريس، ليقدم حفلاً تاريخياً يعتبر علامة فارقة في مسيرته وفي تاريخ موسيقى الشعبي. لم يكن هذا مجرد حفل، بل كان اعترافاً عالمياً بقيمة هذا الفن وتكريماً لأحد أكبر سفرائه.
في تلك الليلة، أبدع القروابي وقدم خلاصة فنه، متنقلاً بسلاسة بين القصائد الحزينة والانصرافات المبهجة، وأسر الجمهور العالمي بصوته الفريد وحضوره الأنيق. كان هذا الحفل تتويجاً لمسيرة فنية طويلة، وتأكيداً على أن فن الشعبي، رغم طابعه المحلي، يحمل رسالة إنسانية عالمية قادرة على تجاوز حدود اللغة والجغرافيا.

جميع الحقوق محفوظة لقناة اليوتيوب: Salim omeddour.
الإرث الفني ومروان قروابي: امتداد أم اختلاف؟
إرث لا يموت
رحل الهاشمي قروابي في 17 يوليو 2006، لكن صوته وفنه لم يرحلا. ترك وراءه إرثاً فنياً ضخماً، ومدرسة في الأداء لا تزال تلهم الأجيال الجديدة من فناني الشعبي. لقد أثبت أن الأصالة لا تتعارض مع التجديد، وأن الفن الشعبي قادر على التعبير عن أعمق القضايا الإنسانية.
مروان قروابي: موهبة في مجال مختلف
من بين أبنائه، برز اسم مروان قروابي، لكن في مجال مختلف تماماً، وهو التمثيل والكوميديا. لم يتبع مروان خطى والده في الغناء، بل اختار أن يصنع لنفسه اسماً في عالم الشاشة، وقد حقق نجاحاً كبيراً وأصبح من أشهر الممثلين الشباب في الجزائر، خاصة بعد أدواره المميزة في مسلسلات مثل "عاشور العاشر".
قد يبدو هذا اختلافاً كبيراً، لكن عند التأمل، يمكننا أن نرى خيطاً رفيعاً يربط بين الأب والابن. فكلاهما فنان يمتلك قدرة على التواصل مع الجمهور والتأثير فيه. الهاشمي كان "حكواتياً" يروي قصص الملحون بصوته، ومروان "حكواتي" يروي قصص المجتمع من خلال أدواره الكوميدية والدرامية. كلاهما، كلٌ في مجاله، استطاع أن يدخل قلوب الجزائريين.

جميع الحقوق محفوظة لقناة اليوتيوب: algérien dz.
المصادر والمراجع
- أرشيف الإذاعة والتلفزيون الجزائري.
- كتاب "الحاج م'حمد العنقى: عبقرية ومسيرة" - عبد القادر بن دعماش.
- مقالات صحفية وأبحاث أكاديمية حول تاريخ موسيقى الشعبي والصنعة في الجزائر.
- شهادات ولقاءات مع فنانين وباحثين في التراث الجزائري.
- موسوعة ويكيبيديا (النسخة العربية والفرنسية) مع مراجعة المصادر المذكورة.
هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.
نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم