الفنان أكرم ليتيم
بإشراف: أكرم ليتيم

فنان وباحث في التراث الشعبي الجزائري

في هذا الموقع، أقدم لكم شروحات دسمة ومحتوى احترافي. أستعين بالذكاء الاصطناعي كنقطة انطلاق، لكن كل معلومة تخضع لمراجعتي الدقيقة، مع استشارة مستمرة لمشايخ وفنانين مختصين لضمان الأصالة والموثوقية.

خط المقال

اختر الخط المفضل لديك للقراءة:

اليهود والموسيقى الجزائرية: تاريخ من التعايش والإبداع المنسي

اليهود والموسيقى الجزائرية: تاريخ من التعايش والإبداع المنسي

اليهود والموسيقى الجزائرية: تاريخ من التعايش والإبداع المنسي

بقلم: الفنان الشعبي أكرم ليتيم
مقدمة: ذاكرة موسيقية مشتركة

إن الحديث عن الموسيقى الجزائرية، وخاصة تراث "الصنعة" الأندلسي العريق وما تفرع عنه من فن "الشعبي"، هو حديث عن ذاكرة غنية ومتشابكة، نسجت خيوطها على مدى قرون من التفاعل الحضاري والثقافي بين مختلف مكونات المجتمع الجزائري. وفي قلب هذا النسيج، يبرز دور الطائفة اليهودية الجزائرية كعنصر فاعل ومؤثر، لكنه في كثير من الأحيان محاط بالغموض والمبالغات، سواء بالتهويل أو التجاهل.

كفنان شعبي، لطالما تساءلت عن حقيقة هذا الدور، وعن طبيعة الإسهام الذي قدمه الموسيقيون اليهود لهذا التراث الذي نعتز به جميعاً. هل كانوا مجرد ناقلين وحافظين أم كانوا مبدعين ومجددين؟ هل تركوا بصمة خاصة بهم في ديوان الملحون والصنعة؟ وما هي الأسباب التاريخية والاجتماعية التي شكلت طبيعة مساهمتهم؟

في هذا المقال، سأحاول، أنا أخوكم أكرم ليتيم، أن أقدم قراءة متأنية وموضوعية لهذا التاريخ المشترك، مستعيناً بما كتبه الباحثون والمؤرخون، وعلى رأسهم الأستاذ فوزي سعد الله في كتابه القيم "يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب". هدفنا هو رسم صورة حقيقية لهذا "الإسهام" اليهودي، بعيداً عن الإجحاف والمزايدات، وتقديراً لكل من خدم هذا الفن الأصيل، مسلماً كان أم يهودياً.

الجذور التاريخية: من الأندلس إلى حواضر الجزائر

الأصول الأندلسية

لا يمكن فهم دور اليهود في موسيقى الصنعة دون العودة إلى منبعها الأول: الأندلس. في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية، عاش المسلمون واليهود والمسيحيون في حالة فريدة من التعايش الحضاري (Convivencia). في هذا المناخ، ازدهرت الفنون والعلوم، وكانت الموسيقى أحد أبرز التجليات لهذا التمازج.

شارك الموسيقيون والشعراء اليهود بفعالية في الحياة الفنية الأندلسية. أسماء مثل شلومون بن جبيرول وإبراهيم بن سهل الإشبيلي، على الرغم من أنهم شعراء كتبوا بالعبرية والعربية الفصحى، إلا أنهم كانوا جزءاً من نفس المناخ الثقافي الذي أنتج الموشحات والأزجال التي أصبحت أساس الموسيقى الأندلسية. لقد تشربوا نفس الروح، وساهموا في إغناء هذا التراث الإنساني العظيم.

الهجرة وحفظ التراث

مع سقوط غرناطة عام 1492 وما تلاها من محاكم تفتيش، بدأت موجات الهجرة الكبرى للمسلمين واليهود من الأندلس باتجاه شمال إفريقيا. حمل هؤلاء المهاجرون معهم كنوزهم الثقافية، وعلى رأسها الموسيقى. استقرت جاليات كبيرة منهم في مدن جزائرية مثل تلمسان والجزائر وقسنطينة، وأصبحت هذه المدن هي الحواضن الجديدة التي ستحافظ على التراث الأندلسي وتطوره.

في هذا السياق، لعب الموسيقيون اليهود دوراً محورياً كـ "حفظة" و "نقلة" لهذا الفن. وبسبب تمركزهم في المدن، تخصصوا في الموسيقى الحضرية الكلاسيكية، أي "الصنعة"، وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من أجوائها الفنية، يعزفون في الأفراح والمناسبات الخاصة بالمجتمعين الإسلامي واليهودي على حد سواء.

الدور في موسيقى الصنعة: أداء أم إبداع؟

هنا نصل إلى النقطة الجوهرية التي يطرحها الأستاذ فوزي سعد الله، وهي طبيعة الدور الذي لعبه اليهود في موسيقى الصنعة خلال العهد العثماني وما بعده. الملاحظة الأساسية هي أن المبادرة في الإبداع والتأليف الشعري كانت دائماً إسلامية.

غياب التأليف الشعري

يشير سعد الله إلى حقيقة تاريخية مهمة: "قرون ممارسة الغناء الأندلسي... لمْ تُسَجِّلْ أيّ اسم يهودي تَرَكَ أشعاراً هامة، سواء أكانت قصائد كلاسيكية أو موشحات وأزجالا، بَقِيَتْ حية تُرزق حتى اليوم كما هو الشأن بالنسبة للجزائريين المسلمين".

فبينما يزخر ديوان الملحون بأسماء شعراء مسلمين كبار مثل بن مسايب، بن سهلة، لخضر بن خلوف، وغيرهم، نجد غياباً شبه تام لشعراء يهود تركوا بصمة مماثلة في هذا المجال. وهذا لا ينفي وجودهم كمؤدين بارعين، بل يحدد طبيعة دورهم. لقد كانوا عازفين ومغنين مهرة، يتقنون أداء "النوبات" والقصائد التي ألفها الشعراء المسلمون، لكنهم لم يكونوا، في الغالب، مؤلفين لهذه القصائد.

تفسير الظاهرة

يقدم سعد الله تفسيراً لهذه الظاهرة، فيرى أنها قد تعبر عن "ما يمكن أن يُشْبِهَ السَّطحية في التعامل مع التراث الغنائي المحلي والتي حالت دون تَمَكُّنِ يهود الجزائر من وُلوجِ دائرة إنتاجه والبقاء في حدود دائرة التبادل والتوزيع". بمعنى آخر، كان دورهم أقرب إلى دور "الموزع" أو "المؤدي" في العملية الفنية، وليس "المنتج" أو "المبدع" للمادة الشعرية الأساسية.

يمكن إضافة عوامل أخرى لهذا التفسير، منها أن الشعر الملحون كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالثقافة الإسلامية، بمواضيعه الدينية كمدح الرسول، وبمرجعياته القرآنية. قد يكون هذا قد شكل حاجزاً ثقافياً حال دون انخراط الشعراء اليهود في هذا النوع من الإبداع بنفس العمق.

زمن الإبداع المختلف: الموسيقى اليهودية-العربية

إذا كان الإسهام الإبداعي لليهود في "الصنعة" الكلاسيكية محدوداً، فإن الصورة تتغير تماماً مع بداية القرن العشرين وظهور صناعة التسجيلات والتأثيرات الغربية. في هذه الفترة، برز جيل من الفنانين اليهود الذين أبدعوا في نوع موسيقي جديد، هجين ومبتكر، عُرف بـ "الموسيقى اليهودية-العربية" أو "الفرانكو-آراب".

رواد الأغنية العصرية

هؤلاء الفنانون، مثل ليلي بونيش، ليلي العباسي، وبلون بلون، لم يكتفوا بترديد التراث، بل ألفوا ولحنوا أغاني خاصة بهم، عكست واقعهم كجزء من مجتمع جزائري متعدد الثقافات تحت تأثير الحداثة الغربية. تميزت أغانيهم بـ:

  • المزج اللغوي: كانوا يمزجون بين الدارجة الجزائرية والفرنسية ببراعة وعفوية.
  • المزج الموسيقي: دمجوا بين المقامات والإيقاعات الشعبية الجزائرية (خاصة الوهرانية) وبين إيقاعات غربية مثل التانغو، البوليرو، والفالس.
  • المواضيع الجديدة: تناولوا مواضيع عصرية تعبر عن الحياة اليومية، والحب، والفرح، وحتى الأحداث العالمية بطريقة ساخرة مثل أغنية "القنبلة الذرية" لبلون بلون.

أغاني مثل "آلجي، آلجي" لليلي بونيش، أو "وهران الباهية" لليلي العباسي، أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة الموسيقية الجزائرية، وتعتبر إبداعاً يهودياً جزائرياً خالصاً.

قصيدة "بن سوسان": حالة نادرة

تعتبر "قصيدة بن سوسان" التي نظمها بن إيشو بن سعدون حالة فريدة. هي قصيدة ملحون متكاملة، تحكي قصة حقيقية ومأساوية، لكنها، كما يشير سعد الله، بقيت "طائفية" الطابع، يتداولها اليهود فيما بينهم، ولم تنتشر في الأوساط الإسلامية بنفس القدر، مما يؤكد على وجود حواجز ثقافية بين المجتمعين.

غياب العنصر النسوي: لغز تاريخي

يطرح الأستاذ فوزي سعد الله ملاحظة هامة ومحيرة، وهي الغياب شبه التام للنساء اليهوديات عن الساحة الفنية الموثقة في العهد العثماني وحتى بداية القرن العشرين. هذا الغياب يبدو غريباً، خاصة إذا ما قورن بالحرية الاجتماعية النسبية التي كانت تتمتع بها المرأة اليهودية في بعض المهن.

في المقابل، يورد لنا التاريخ أسماء فنانات مسلمات استطعن أن يتركن أثراً، مثل "نفيسة المداحة" و "فاطمة الكمنجة" في القرن الثامن عشر. هذا التباين يطرح أسئلة حول طبيعة المجتمع اليهودي الجزائري آنذاك، أو ربما حول طبيعة التوثيق التاريخي نفسه الذي قد يكون أغفل دورهن.

هذه النقطة تظل لغزاً تاريخياً يحتاج إلى المزيد من البحث والدراسة، لكنها تشير إلى أن المشاركة الفنية لم تكن متساوية بين الجنسين داخل الطائفة اليهودية في تلك الفترة، على الأقل في المجال العام الموثق.

خاتمة: نحو قراءة متوازنة

إن قراءة تاريخ الموسيقى الجزائرية تكشف لنا عن علاقة معقدة وغنية بين المسلمين واليهود. لا يمكن إنكار الدور الحيوي الذي لعبه الموسيقيون اليهود، خاصة في الحفاظ على تراث الصنعة الأندلسية ونقله عبر الأجيال. لقد كانوا أساتذة كباراً في الأداء، وحافظين أمناء لهذا الفن العريق.

وفي نفس الوقت، تشير المصادر إلى أن إبداعهم الشعري الخاص لم يتبلور بشكل كبير إلا في العصر الحديث، ومع ظهور الأنماط الموسيقية الهجينة التي كانوا روادها الحقيقيين. إن فهم هذا التوزيع للأدوار ليس انتقاصاً من قيمة أي طرف، بل هو قراءة موضوعية للتاريخ، تعطي كل ذي حق حقه.

في النهاية، يبقى تراث الصنعة والشعبي تراثاً جزائرياً خالصاً، ساهم في بنائه وصقله مسلمون ويهود على مدى قرون من العيش المشترك. ومسؤوليتنا اليوم، كفنانين وباحثين، هي أن نقرأ هذا التاريخ بكل تعقيداته، وأن نحتفي بكل من أضاف لبنة في صرحه الشامخ، بعيداً عن أي مزايدات أو إجحاف. فالفن، في جوهره، هو رسالة إنسانية تتجاوز الطوائف والانتماءات.

المصادر والمراجع
  • سعد الله، فوزي. (2009). يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب. دار قرطبة، الجزائر.
  • شوفال، تال. (2007). La ville d’Alger sous les Ottomans: une histoire en partage. CNRS Éditions.
  • بن دعماش، عبد القادر. الحاج م'حمد العنقى: عبقرية ومسيرة. منشورات القصبة.
  • أبحاث ودراسات متنوعة حول الموسيقى الأندلسية والشعبية في الجزائر والمغرب العربي.
معلومات حقوق النشر

هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.

نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق