فن الملحون: أصوله، بنيته، وكيفية نظمه مع الشرح المفصل
فن الملحون: أصوله، بنيته، وكيفية نظمه مع الشرح المفصل
مقدمة: ما هو شعر الملحون؟
شعر الملحون هو ديوان المغاربة والعرب، هو السجل النابض الذي دونت فيه أفراحهم وأحزانهم، حكمتهم وغزلهم، تاريخهم وحكاياتهم. هو فن شعري وغنائي عريق، نشأ وترعرع في حواضر المغرب العربي الكبير، خاصة في المغرب والجزائر، مستلهماً روحه من الزجل الأندلسي، ومتجذراً في تربة الثقافة الشعبية بكل غناها وتنوعها.
يتميز الملحون بلغته الفريدة التي تمزج بين الفصاحة والدارجة، وبقوالبه الشعرية المبتكرة، وبقدرته الفائقة على التعبير عن أدق المشاعر وأعمق الأفكار. هو ليس مجرد كلمات تُنظم، بل هو بناء معماري متكامل، له أسسه وقواعده، وأوزانه وإيقاعاته، وأغراضه التي تتسع لتشمل كل جوانب الحياة.
في هذا المقال، سأصحبكم، أنا أخوكم الفنان الشعبي أكرم ليتيم، في رحلة إلى أعماق هذا الفن الأصيل. لن نكتفي بالوصف والتأريخ، بل سنغوص في بنية القصيدة الملحونة، ونفكك أجزاءها، ونشرح مصطلحاتها، لنقدم دليلاً عملياً لكل من يرغب في فهم هذا الفن أو حتى محاولة النظم على منواله. سنتعرف على معنى "الحربة" و "القسم" و "الصياح" و "الخماسة"، وسنرى كيف تتضافر هذه العناصر لتخلق تحفة فنية خالدة.
الجذور التاريخية والتطور
من الزجل الأندلسي إلى الملحون المغاربي
لا يمكن الحديث عن الملحون دون العودة إلى جذوره في الأندلس. فقد كان "الزجل" هو الشكل الشعري الشعبي السائد هناك، والذي تميز بتحرره من قيود الإعراب الصارمة للشعر الفصيح، واستخدامه للغة قريبة من لسان العامة. بعد سقوط الأندلس وهجرة أهلها إلى شمال إفريقيا، حملوا معهم هذا الفن، الذي وجد في مدن مثل فاس ومكناس وسلا وتلمسان وقسنطينة تربة خصبة لينمو ويزدهر.
عصر الازدهار: من سجلماسة إلى الحواضر الكبرى
تشير المصادر التاريخية إلى أن منطقة تافيلالت وسجلماسة كانت من أولى الحواضن التي تطور فيها الملحون في المغرب، ومنها انطلق إلى الحواضر الكبرى. في هذه المدن، احتضن الحرفيون والتجار هذا الفن، وأصبحت له مجالسه الخاصة وشيوخه الكبار الذين تناقلوا قصائده وأضافوا إليها من إبداعهم. أصبح الملحون هو صوت المدينة، يعبر عن حياتها اليومية، ويؤرخ لأحداثها، وينشد في أسواقها وأعراسها ومواسمها الدينية.
الملحون الجزائري: الشعبي والصنعة
في الجزائر، اتخذ الملحون مسارين متوازيين ومتكاملين. فمن جهة، أصبح هو المادة الشعرية الأساسية لموسيقى "الصنعة" الأندلسية، حيث تُغنى قصائده في "النوبات". ومن جهة أخرى، كان هو الأساس الذي قام عليه فن "الشعبي" الجزائري العاصمي، الذي يعتبر ابناً شرعياً للملحون. لقد أخذ شيوخ الشعبي، مثل الحاج محمد العنقى، قصائد الملحون المغربي والجزائري، وأعطوها ألحاناً جديدة، وقدموها في قالب موسيقي فريد أصبح هوية فنية للعاصمة الجزائرية.
الأغراض الشعرية: عالم الملحون المتنوع
تعددت الأغراض التي تناولها شعراء الملحون، لتشمل كل جوانب الحياة، ومن أهمها:
- الغزل (العشاقي): وهو الغرض الأكثر انتشاراً، وفيه يصف الشاعر لوعة حبه وجمال محبوبته، ويشكو من الهجر والفراق.
- المديح النبوي: وفيه يتغنى الشعراء بمدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويصفون سيرته ومعجزاته، ويتوسلون به إلى الله.
- التوسل والابتهال: وهي قصائد يناجي فيها الشاعر ربه، ويشكو له حاله، ويطلب منه العفو والمغفرة.
- الحكمة والموعظة (الزهديات): وهي قصائد تقدم نصائح في الدين والأخلاق، وتدعو إلى الزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة.
- الوصف: وفيه يصف الشاعر جمال الطبيعة، أو المدن، أو رحلات الصيد، أو مجالس الأنس.
- المناظرات: وهي قصائد حوارية طريفة تقيم حواراً أو خصاماً بين شيئين، مثل قصيدة "خصام لقهوة و اتاي".
- القصص (الخيال): وهي قصائد طويلة تحكي قصصاً تاريخية أو أسطورية أو اجتماعية، مثل قصيدة "راس المحنة".
البنية المعمارية للقصيدة الملحونة
تتميز القصيدة الملحونة ببنية معمارية فريدة ومحكمة، تتكون من عدة أجزاء لكل منها وظيفته الخاصة. فهم هذه البنية هو مفتاح فهم كيفية كتابة الملحون. وأهم هذه الأجزاء هي:
1. الحربة (أو اللازمة)
الحربة هي بمثابة "اللازمة" أو المقطع المتكرر في القصيدة. هي المدخل الرئيسي للقصيدة، وتعتبر أساسها الذي تُبنى عليه. وظيفتها:
- تحديد الموضوع: تقدم الحربة الفكرة الرئيسية أو الشعور العام للقصيدة.
- تحديد الوزن والقافية: تضع الحربة القالب الوزني والإيقاعي والقافية التي ستسير عليها بقية أجزاء القصيدة.
- الربط بين الأقسام: تتكرر الحربة بعد كل "قسم" لتربط أجزاء القصيدة معاً وتذكر المستمع بالموضوع الرئيسي.
قد تتكون الحربة من بيتين أو أكثر، وتتميز بقافية موحدة.
2. القسم
القسم هو الوحدة الأساسية في جسم القصيدة، ويأتي بعد الحربة. كل قسم يتناول جانباً من جوانب الموضوع الرئيسي الذي طرحته الحربة. يتكون القسم عادة من عدة "أبيات"، وقد يسبقه أو يتخلله "صياح".
3. البيت
البيت في الملحون يشبه البيت في الشعر الفصيح، فهو يتكون من شطرين، لكنه لا يلتزم دائماً بنفس عدد التفعيلات الصارمة. الأهم هو الوزن الموسيقي العام (السماعي).
4. الصياح
الصياح هو مقطع يأتي عادة في بداية القسم، ويتميز بأنه يكون على قافية ووزن مختلفين عن أبيات القسم نفسه. وظيفته هي كسر الرتابة، وتهيئة المستمع للجزء الجديد من القصيدة، وغالباً ما يحمل حكمة أو تعليقاً على ما سبقه. هو بمثابة "صرخة" أو تنبيه من الشاعر.
5. الخماسة
الخماسة هي نوع محدد من القصائد أو الأقسام، يتميز بأن كل مقطع فيه يتكون من خمسة أبيات (أو خمسة أشطر) تتبع نظام قوافٍ معين. هو شكل يظهر براعة الشاعر وقدرته على التحكم في النظم.
6. الدريدكة
هي مقاطع قصيرة وسريعة الإيقاع، تأتي غالباً في نهاية القصيدة لتغيير الجو العام وإضفاء لمسة من الخفة والمرح قبل الختام.
كيف تكتب قصيدة ملحون؟ (دليل عملي)
كتابة قصيدة ملحون ليست مجرد رص للكلمات، بل هي فن يتطلب موهبة وذوقاً ومعرفة بالقواعد. إليك بعض الخطوات التي أرى، من خلال تجربتي، أنها قد تساعد من يريد أن يخوض هذا المجال:
- الغوص في بحر الملحون: قبل أن تكتب، يجب أن تستمع وتقرأ كثيراً. استمع إلى شيوخ الفن الكبار، اقرأ دواوينهم، وحاول أن تتشرب لغتهم وأساليبهم وأوزانهم. الملحون فن سماعي بالدرجة الأولى.
- اختيار الغرض (الموضوع): حدد الموضوع الذي تريد الكتابة فيه. هل هو غزل؟ مديح؟ حكمة؟ شكوى؟ الموضوع هو الذي سيحدد المشاعر واللغة والصور التي ستستخدمها.
- صياغة الحربة: الحربة هي مفتاح القصيدة. ابدأ بصياغة بيتين أو ثلاثة أبيات تلخص فكرتك الرئيسية. يجب أن تكون هذه الأبيات قوية ومحكمة الوزن والقافية، لأنها ستكون المرجع لبقية القصيدة.
- بناء الأقسام: ابدأ في بناء "الأقسام". في كل قسم، تناول جانباً من جوانب موضوعك. لا تكرر نفس الفكرة، بل حاول أن تطورها وتتعمق فيها مع كل قسم جديد.
- استخدام اللغة المناسبة: الملحون هو فن اللغة الشعبية الراقية. لا تخف من استخدام الكلمات الدارجة، لكن وظفها في سياق فني جميل. استخدم الصور البلاغية المستمدة من بيئتك (التشبيه، الاستعارة، الكناية).
- اللعب بالإيقاع: لا تجعل قصيدتك على وتيرة واحدة. استخدم "الصياح" لكسر الرتابة، وفكر في إضافة "دريدكة" في النهاية إذا كان الموضوع يسمح بذلك. الإيقاع هو روح الملحون.
- المراجعة والصقل: بعد الانتهاء من النظم، اقرأ قصيدتك بصوت عالٍ عدة مرات. استمع إلى موسيقاها وجرسها. قم بتعديل الكلمات والأوزان حتى تصل إلى النتيجة المرضية. عرضها على أهل الخبرة لأخذ رأيهم.
"إن الشعر الملحون كالصناعة التقليدية، يتطلب صبراً ودقة وحباً. لا يمكن تعلمه في يوم وليلة، بل هو ثمرة تجربة طويلة وممارسة مستمرة." - أكرم ليتيم
المصادر والمراجع
تم الاعتماد في كتابة هذا المقال على مجموعة من المصادر الموثوقة في دراسة الشعر الملحون والتراث المغاربي، بالإضافة إلى الخبرة الشخصية في هذا الميدان. من أهم هذه المصادر:
- "معلمة المغرب" - إشراف محمد حجي.
- "الملحون المغربي" - عباس الجراري.
- "أزجال وأشعار من ديوان الملحون" - محمد الفاسي.
- "ديوان الشيخ الجيلالي امتيرد" - تحقيق أحمد سهوم.
- مقالات وأبحاث منشورة في مجلات متخصصة حول التراث الشعبي.
- تسجيلات صوتية ومرئية لشيوخ ومنشدي فن الملحون والشعبي الجزائري.
هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.
نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم