الفنان أكرم ليتيم
بإشراف: أكرم ليتيم

فنان وباحث في التراث الشعبي الجزائري

في هذا الموقع، أقدم لكم شروحات دسمة ومحتوى احترافي. أستعين بالذكاء الاصطناعي كنقطة انطلاق، لكن كل معلومة تخضع لمراجعتي الدقيقة، مع استشارة مستمرة لمشايخ وفنانين مختصين لضمان الأصالة والموثوقية.

خط المقال

اختر الخط المفضل لديك للقراءة:

الحسين التولالي: حارس الذاكرة وصوت الملحون الخالد

الحسين التولالي: حارس الذاكرة وصوت الملحون الخالد

الحسين التولالي: حارس الذاكرة وصوت الملحون الخالد

بقلم: الفنان الشعبي أكرم ليتيم
مقدمة: حارس المعبد

في تاريخ الأمم، هناك رجال لا يمرون مرور الكرام، بل يصبحون هم أنفسهم معالم خالدة، ورموزاً تختزل هوية أمة بأكملها. الشيخ الحسين التولالي (1924-1998) هو أحد هؤلاء الرجال. هو ليس مجرد منشد كبير من منشدي فن الملحون، بل هو مؤسسة قائمة بذاتها، هو "حارس المعبد"، والذاكرة الحية التي حملت على عاتقها أمانة الحفاظ على هذا التراث الشعري والموسيقي العظيم ونقله بأمانة وصفاء للأجيال القادمة.

إن الحديث عن الحسين التولالي هو حديث عن تاريخ الملحون في القرن العشرين. لقد كان بمثابة الجسر الذهبي الذي ربط بين زمن الشيوخ المؤسسين، الذين نهل من معينهم الصافي، وبين العصر الحديث الذي حاول أن يقدم فيه هذا الفن في صورته الأصيلة، بعيداً عن التشويه والتحريف. لم يكن مجرد "فنان"، بل كان "حافظاً" بالمعنى العميق للكلمة؛ حافظاً للقصائد، حافظاً للأوزان، حافظاً للألحان، والأهم من ذلك، حافظاً لروح هذا الفن وقيمه الأخلاقية والجمالية.

في هذا المقال، سأصحبكم، أنا أخوكم أكرم ليتيم، في رحلة معمقة لاستكشاف عالم هذا الهرم الفني الشامخ. سنغوص في أزقة مكناس، المدينة التي شكلت وجدانه، ونتتبع مسيرته من ساعي بريد بسيط إلى "شيخ شيوخ" الملحون. سنحلل أسلوبه الأدائي الفريد، وصوته الذي لا تخطئه أذن، وفلسفته الصارمة في التعامل مع الفن كتراث مقدس. هدفنا هو أن نقدم صورة متكاملة لهذا الرجل الذي لم يكن صوته مجرد أداة للطرب، بل كان صوتاً للذاكرة، وضميراً للفن، ورمزاً لأصالة لا تموت.

مهد الفن: مكناس وإرثها الحضاري

مكناس: العاصمة الإسماعيلية وقلب الملحون

لا يمكن فهم ظاهرة الحسين التولالي دون فهم المدينة التي أنجبته وصقلت موهبته: مكناس. هذه المدينة، التي اختارها السلطان المولى إسماعيل عاصمة لدولته في القرن السابع عشر، ليست مجرد تجمع عمراني، بل هي بوتقة انصهرت فيها الثقافات، ومركز إشعاع ديني وفني وعلمي.

تعتبر مكناس، إلى جانب فاس ومراكش، إحدى العواصم التاريخية الكبرى لفن الملحون. كانت المدينة، بحرفييها وصناعها التقليديين، وبيوتاتها العريقة، وزواياها الصوفية، تشكل بيئة خصبة لنمو هذا الشعر الشعبي. كانت "الحلقة" في ساحة الهديم، ومجالس السمر في "الرياضات"، هي المدارس الحقيقية التي يتخرج منها شعراء ومنشدو الملحون. في هذا الجو المشبع بالشعر والموسيقى، فتح الحسين التولالي عينيه، وتنفست روحه أولى أنغام هذا الفن.

خصوصية الملحون المكناسي

يتميز الملحون المكناسي بخصائص معينة، أهمها الرصانة والوقار، والتركيز على القصائد ذات الطابع الحكمي والصوفي، والجزالة في اللفظ، والعمق في المعنى. هو فن يعكس جدية أهل الحرفة، وحكمة أهل التصوف. هذه الخصائص ستصبح لاحقاً هي نفسها سمات أسلوب الحسين التولالي، مما يؤكد أنه كان الابن البار لهذه المدرسة العريقة.

السنوات الأولى: من الشغف إلى الإتقان

النشأة والتكوين

وُلد الحسين التولالي عام 1924 في حي تولال بمدينة مكناس، ومنه اكتسب لقبه. نشأ في أسرة متواضعة، ولم تتح له فرصة إكمال تعليمه، فبدأ حياته المهنية كساعي بريد. هذه المهنة البسيطة، التي قد تبدو بعيدة عن عالم الفن، كانت في الحقيقة نافذته على المجتمع. من خلال تجواله اليومي في أزقة المدينة، كان التولالي يستمع إلى نبض الناس، ويحتك بمختلف طبقاتهم، ويتشبع بحكاياتهم وأشعارهم.

شغف مبكر وتعلم ذاتي

منذ صغره، أظهر التولالي شغفاً كبيراً بالملحون. كان يتردد على "الحلقات" ومجالس الإنشاد، ويحفظ ما يسمعه من قصائد. لم يتلق تعليماً موسيقياً أكاديمياً، بل كانت أذنه هي مدرسته، وذاكرته هي ديوانه. اعتمد على "التلقي"، وهو الأسلوب التقليدي في تعلم هذا الفن، حيث يجلس المريد عند الشيخ ويستمع إليه مراراً وتكراراً حتى يتشرب القصيدة لحناً وكلمات وروحاً.

شيوخه ومصادر إلهامه

تأثر التولالي بالعديد من شيوخ الملحون الكبار في مكناس، وعلى رأسهم الشيخ محمد ولد حمو، والشيخ ولد الكامل. لكنه لم يكتف بمدرسة مدينته، بل كان نهماً للمعرفة، فبدأ رحلة طويلة في البحث عن كنوز الملحون في مختلف أنحاء المغرب. سافر إلى فاس ومراكش وسلا، وجالس شيوخها، ونهل من مدارسها المختلفة، مما أكسبه معرفة موسوعية شاملة بهذا الفن، وجعل ريبرتواره من الأغنى والأكثر تنوعاً.

حارس الذاكرة: التولالي الحافظ والأرشيفي

أهمية "الحفظ" في تراث شفوي

إن أعظم ما قدمه الحسين التولالي للملحون، والذي يميزه عن الكثير من معاصريه، هو دوره كـ "حافظ" وأرشيفي. ففي فن يعتمد بشكل أساسي على الرواية الشفهية، تكون الذاكرة هي الحصن الأخير الذي يحمي التراث من الضياع والتحريف. لقد أدرك التولالي هذه الحقيقة مبكراً، فكرس حياته ليس فقط لأداء الملحون، بل لجمعه وتدوينه وتوثيقه.

"الكناش": الخزانة الشخصية

كان التولالي يمتلك "كناشاً" (دفتراً) أسطورياً، كان بمثابة خزانته الشخصية التي لا تفارقه. في هذا الكناش، كان يدون بخط يده كل قصيدة يسمعها أو يجدها، مع الحرص على توثيق اسم شاعرها، وبحرها العروضي، وأي ملاحظات تتعلق بلحنها أو طريقة أدائها. لم يكن يكتفي بالقصائد المشهورة، بل كان يبحث عن "الغرائب" والقصائد النادرة التي كادت أن تندثر.

"كان التولالي بمثابة أكاديمية متنقلة للملحون. ذاكرته وكناشه كانا أهم مرجع لهذا الفن في القرن العشرين." - باحث في التراث المغربي.

التعاون مع الباحثين

بفضل هذه السمعة كحافظ موثوق، أصبح التولالي مرجعاً أساسياً لكل الباحثين والأكاديميين الذين اهتموا بدراسة الملحون، سواء كانوا مغاربة أو أجانب. كان يفتح لهم بيته وكناشه، ويمدهم بالمعلومات الدقيقة، ويصحح لهم الأخطاء الشائعة. لقد ساهم بشكل مباشر في العمل العظيم الذي قامت به أكاديمية المملكة المغربية لإصدار "معلمة الملحون"، حيث كان أحد أهم مصادرها الشفهية.

بهذا العمل الدؤوب، تحول الحسين التولالي من مجرد فنان إلى "حارس للذاكرة"، وضمن بقاء هذا التراث حياً وصافياً لينتقل إلى الأجيال القادمة.

صوت الملحون: تحليل أسلوبه الأدائي

صوت لا تخطئه أذن

يمتلك الحسين التولالي صوتاً فريداً، يمكن تمييزه من النبرة الأولى. هو صوت قوي، جهوري، صافٍ، لكنه في نفس الوقت يحمل "بحة" مميزة، "ذبحة" كما تسمى في الملحون، تضفي على أدائه مسحة من الشجن والعمق. كانت مخارج الحروف عنده واضحة ونقية، فكان المستمع قادراً على تذوق جماليات النص الشعري بكل تفاصيله.

سلطان الإيقاع

كان التولالي سلطاناً حقيقياً في عالم الإيقاع. تميز بقدرته المذهلة على أداء أعقد "القياسات" وأصعبها بدقة متناهية، وثبات لا يتزعزع. لم يكن الإيقاع عنده مجرد خلفية موسيقية، بل كان جزءاً من بنية القصيدة، يخدم المعنى ويبرزه. كان أداؤه أشبه بالبناء المعماري، كل كلمة وكل جملة موسيقية توضع في مكانها الصحيح بدقة هندسية.

الأداء الرصين: خدمة النص

تميز أداء التولالي بالرصانة والوقار. لم يكن فناناً استعراضياً، بل كان يضع كل طاقته في خدمة النص الشعري. كانت حركاته قليلة، ونظراته مركزة، وكأنه في حالة "محراب" أو صلاة. كان يرى أن المنشد هو مجرد وسيط بين الشاعر والجمهور، وأن مهمته الأساسية هي إيصال المعنى بأمانة وصدق. هذا الأسلوب الرصين كان يضفي على أدائه هيبة وروحانية، ويجعل المستمع في حالة من الخشوع والتأمل.

الإرث الخالد: مدرسة التولالي

مدرسة في الأداء

ترك الحسين التولالي وراءه مدرسة متكاملة في فن إنشاد الملحون. أصبح أسلوبه، الذي يجمع بين القوة والصفاء والدقة والروحانية، هو النموذج الذي يسعى الكثير من المنشدين الشباب إلى الاقتداء به. لقد وضع معياراً عالياً جداً للأداء، وأعاد للملحون هيبته ووقاره.

الملحون يصافح الحداثة: تجربة جيل جيلالة

على الرغم من كونه "محافظاً" في فنه، إلا أن التولالي لم يكن منغلقاً. ولعل أبرز دليل على ذلك هو تعاونه التاريخي مع مجموعة "جيل جيلالة" في السبعينيات. هذه التجربة كانت بمثابة جسر بين تراث الملحون العريق وبين روح الشباب الجديدة. لقد أعطى هذا التعاون للملحون نفساً جديداً، وساهم في تقديمه لجمهور واسع لم يكن يعرفه من قبل، وأثبت أن هذا الفن قادر على التجدد ومخاطبة كل الأجيال.

الاعتراف والتقدير

حظي الحسين التولالي بتقدير رسمي وشعبي واسع. حصل على العديد من الأوسمة والتكريمات، وأصبح سفيراً للملحون المغربي في كبريات المهرجانات العالمية. لكن التكريم الأكبر كان هو تلك المحبة العميقة التي حظي بها في قلوب المغاربة، الذين رأوا فيه رمزاً لأصالتهم، وصوتاً لذاكرتهم المشتركة.

خاتمة: الصوت الذي لا يموت

رحل الشيخ الحسين التولالي عن عالمنا عام 1998، لكن صوته لم يرحل. سيظل صوته يتردد في فضاء الثقافة المغربية كشاهد على عظمة هذا الفن، وكدليل على أن هناك رجالاً يستطيعون أن يحملوا تراث أمة بأكملها في ذاكرتهم وحناجرهم.

لم يكن الحسين التولالي مجرد فنان، بل كان مشروعاً ثقافياً متكاملاً. كان هو الذاكرة، وهو الصوت، وهو الضمير. لقد أنقذ ديوان الملحون من الضياع، وقدمه للعالم في أبهى صورة. وإذا كان الملحون لا يزال حياً وقوياً اليوم، فإن الفضل في ذلك يعود، بعد الله، إلى هذا الرجل الذي كرس حياته لخدمة هذا التراث، فاستحق عن جدارة لقب "حارس المعبد".

معلومات حقوق النشر

هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.

نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق