الفنان أكرم ليتيم
بإشراف: أكرم ليتيم

فنان وباحث في التراث الشعبي الجزائري

في هذا الموقع، أقدم لكم شروحات دسمة ومحتوى احترافي. أستعين بالذكاء الاصطناعي كنقطة انطلاق، لكن كل معلومة تخضع لمراجعتي الدقيقة، مع استشارة مستمرة لمشايخ وفنانين مختصين لضمان الأصالة والموثوقية.

خط المقال

اختر الخط المفضل لديك للقراءة:

فن السرابة في الملحون: المقدمة الخفية لديوان المغاربة

فن السرابة في الملحون: المقدمة الخفية لديوان المغاربة

فن السرابة في الملحون: المقدمة الخفية لديوان المغاربة

بقلم: الفنان الشعبي أكرم ليتيم
مقدمة: مفتاح القصيدة وسر الشيوخ

في عالم شعر الملحون الشاسع والغني، هناك أشكال فنية لا يعرف أسرارها إلا المتعمقون في بحاره، ومن بين هذه الجواهر الخفية تبرز "السرابة" كفن قائم بذاته، وكعنصر لا غنى عنه في جلسات الإنشاد الأصيلة. السرابة ليست مجرد قصيدة قصيرة، بل هي مفتاح القصيدة الكبرى، هي المقدمة التي تهيئ الروح وتفتح شهية الذوق، وهي الاختبار الحقيقي لمدى تمكن "الشيخ المنشد" من فنه.

لقد وصفها شيخ الشيوخ، المرحوم الحسين التولالي، بعبارة مقتضبة لكنها جامعة مانعة: "السرابة مقدمة للقصيدة". هذا التعريف البسيط يفتح أمامنا أبواباً واسعة لفهم الدور الوظيفي والجمالي لهذا الشكل الشعري الفريد. فهي ليست مجرد أبيات عابرة، بل هي جزء لا يتجزأ من التجربة السمعية والروحية لجلسة الملحون، حتى ليكاد المستمع، كما قال الأستاذ عبد الجليل بدزي، يعتقد أن السرابة والقصيدة التي تليها "خرجا من جبح واحد".

في هذا المقال، سأحاول، أنا أخوكم أكرم ليتيم، أن أقدم قراءة معمقة وشاملة لفن السرابة. سنغوص في تعريفها، ونستكشف بنيتها الشكلية المعقدة، ونتعرف على قاعدتها الذهبية المتمثلة في ضرورة التوافق الموضوعي مع القصيدة، ونحلل سر كونها "حرامية" (مجهولة المؤلف) في معظم الأحيان. هدفنا هو تسليط الضوء على هذا الفن الراقي، وتقديمه للجيل الجديد من عشاق التراث الأصيل.

تعريف السرابة وبنيتها الشكلية

ما هي السرابة؟

السرابة، في جوهرها، هي قطعة شعرية قصيرة ومكثفة، تُنشد في بداية جلسة الملحون كتمهيد للقصيدة الرئيسية. هي بمثابة "الافتتاحية" في الموسيقى الكلاسيكية، أو "المقبلات" في المائدة الفاخرة؛ وظيفتها أن تفتح شهية المستمع وتدخله في الجو العام للقصيدة القادمة.

البنية الشكلية: اختبار للشاعر والمنشد

على عكس بساطتها الظاهرية، تعتبر السرابة من أصعب أشكال النظم في الملحون، ولا يتقنها إلا الشيوخ الكبار العارفون بـ "لقياسات" (الأوزان). تكمن صعوبتها في قدرتها على التنقل بين عدة أوزان مختلفة في قطعة واحدة قصيرة. فغالباً ما تبدأ السرابة بوزن، ثم تنتقل إلى وزن آخر، وتختم بثالث، في رحلة إيقاعية مصغرة تحاكي تنوع أوزان النوبة الكاملة. من أشهر هذه التنقلات الوزنية:

  • البداية بـ "امرمت لمبيت": وهو وزن هادئ ورصين.
  • الانتقال إلى "مكسور الجناح": وهو وزن أكثر حيوية وحركة.
  • الختام بـ "امرمت السوسي": وهو وزن خفيف وسريع.

هذه القدرة على التنقل السلس بين الأوزان المختلفة في أبيات قليلة هي ما يميز الشاعر المتمكن، وهي أيضاً ما يميز المنشد البارع الذي يستطيع أن يؤدي هذه الانتقالات الإيقاعية بإتقان.

السرابة "الحرامية": لغز المؤلف المجهول

من أهم خصائص السرابة أنها "حرامية"، وهو مصطلح ملحوني يعني أنها مجهولة المؤلف. على عكس القصيدة التي يحرص الشاعر على توقيعها باسمه في أبياتها الأخيرة، فإن السرابة غالباً ما تكون خالية من اسم ناظمها. وهذا له عدة تفسيرات محتملة:

  • التواضع الفني: قد يكون الشاعر يعتبر السرابة مجرد مقدمة وتمهيد، فيتركها دون توقيع من باب التواضع، مركزاً على القصيدة الكبرى.
  • الإبداع الجماعي: قد تكون الكثير من السرابات هي نتاج إبداع جماعي في مجالس الشيوخ، حيث يضيف كل واحد بيتاً أو شطراً، فتصبح ملكاً مشاعاً للتراث.
  • التركيز على الوظيفة: بما أن وظيفة السرابة هي خدمة القصيدة، فقد كان التركيز على مدى ملاءمتها للقصيدة أهم من معرفة قائلها.

هذه الخاصية جعلت من ديوان السرابات كنزاً تراثياً مشتركاً، ينهل منه كل منشد ما يناسب قصيدته وذوقه.

القاعدة الذهبية: التوافق بين السرابة والقصيدة

إن أهم قاعدة تحكم اختيار السرابة وإنشادها هي ضرورة التوافق الموضوعي بينها وبين القصيدة التي تليها. فلا يمكن أن تكون السرابة في وادٍ والقصيدة في وادٍ آخر. هذا التوافق هو ما يخلق الانسجام في "القعدة" ويعطيها وحدتها العضوية.

لكل مقام مقال

لكل غرض شعري سراباته الخاصة به. فإذا كان الشيخ المنشد ("الكراح") يعتزم إنشاد قصيدة في المديح النبوي، فعليه أن يختار سرابة في نفس الغرض، تعبر عن الشوق إلى النبي أو الصلاة عليه. وإذا كانت القصيدة في "العشاقي" (الغزل)، فيجب أن تكون السرابة أيضاً في الغزل. يقول الأستاذ عبد الجليل بدزي:

"فلا معنى لأن يؤدي المنشد "سرابة" في العشاقي، وهو يريد أن ينشد قصيدة في المديح النبوي أو التوسل، كما لا يجدر ب"الشيخ الكراح" أن ينشد "سرابة" على اسم طامو، وهو يريد أن يؤدي قصيدة في العشاقي على إسم زهرة أو مينة أو خدوج..."

هذه القاعدة ليست مجرد تقليد شكلي، بل هي جوهر الذوق الفني في الملحون. فالسرابة هي التي تضع المستمع في الحالة النفسية والمزاجية المناسبة لاستقبال القصيدة، وأي تنافر بينهما يفسد التجربة الفنية بأكملها.

مثال تطبيقي: سرابة الشوق إلى مكة

لنأخذ مثالاً السرابة التي ذكرها الأستاذ بدزي في مقاله:

"مكة يا من اتسال طول احياتي نهواها / لو صبت فكل عام نوطا في أرض أوطاها / ونزور الكعبة الطاهرة وانزاوك فحماها / فوق اجبل عرفة نحج وتصيب الروح مناها..."

من الواضح أن هذه السرابة، بموضوعها الذي يفيض شوقاً إلى الديار المقدسة، هي المقدمة المثالية لقصيدة في نفس الغرض، مثل قصيدة "الحجة" للشاعر عبد الهادي بناني، أو أي قصيدة أخرى تتناول موضوع الحج والزيارة. فهي تهيئ المستمع روحياً، وتفتح قلبه لاستقبال المعاني التي ستحملها القصيدة الكبرى.

خاتمة: السرابة.. فن الإيجاز والتمهيد

في الختام، يمكننا القول إن "السرابة" هي أكثر من مجرد مقدمة شعرية. هي فن قائم بذاته، يتطلب من الشاعر براعة فائقة في النظم والتنقل بين الأوزان، ويتطلب من المنشد ذوقاً رفيعاً وحفظاً واسعاً ليختار السرابة المناسبة للقصيدة المناسبة.

هي فن الإيجاز والتكثيف، حيث يتم التعبير عن مشاعر وأفكار كبيرة في أبيات قليلة. وهي فن التمهيد، حيث تأخذ بيد المستمع بلطف وتدخله إلى عالم القصيدة. وهي أيضاً فن "حرامي" بامتياز، يذكرنا بأن الكثير من كنوز تراثنا هي نتاج إبداع جماعي، وأن القيمة الحقيقية للعمل الفني تكمن في جماله وتأثيره، وليس فقط في اسم مبدعه.

لذلك، في المرة القادمة التي تستمعون فيها إلى جلسة ملحون، أنصتوا جيداً لتلك الأبيات القصيرة التي تبدأ بها "القعدة"، فهي ليست مجرد بداية عابرة، بل هي "السرابة"، مفتاح القصيدة، وسر من أسرار هذا الفن العظيم.

المصادر والمراجع
  • بدزي، عبد الجليل. مقالات متفرقة حول فن الملحون.
  • التولالي، الحسين. تسجيلات صوتية ولقاءات متفرقة (خاصة الشريط المسجل مع مجموعة جيل جيلالة).
  • الجراري، عباس. (1979). القصيدة: الزجل في المغرب. مكتبة الطالب.
  • الفاسي، محمد. (1966). معلمة الملحون. أكاديمية المملكة المغربية.
  • الروايات الشفهية لشيوخ ومنشدي فن الملحون.
معلومات حقوق النشر

هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.

نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق