فن الصنعة الشعبي الجزائري: صوت القصبة وروح الجزائر
فن الصنعة الشعبي الجزائري: صوت القصبة وروح الجزائر
مقدمة: ما هو الشعبي؟
عندما نتحدث عن "الشعبي"، نحن لا نتحدث عن مجرد نوع موسيقي، بل عن روح مدينة بأكملها، هي الجزائر العاصمة "البهجة". الشعبي هو صوت القصبة العتيقة، هو حكمة شيوخها، وفلسفة ناسها البسطاء. هو فن ولد من رحم التراث، لكنه عاش وترعرع في قلب الحاضر، ليصبح واحداً من أصدق أشكال التعبير عن الهوية الجزائرية.
يُعرّف الشعبي غالباً بأنه "ابن الصنعة والملحون"، وهذا التعريف، على بساطته، يحمل في طياته قصة غنية من التطور الفني والاجتماعي. فقد أخذ الشعبي من موسيقى "الصنعة" الأندلسية رصانتها وقوالبها، ومن شعر "الملحون" لغته الدارجة وحكمته الشعبية، ومزجهما في قالب جديد، أكثر حرية وتعبيرية، ليتحدث بلسان حال الناس ويعبر عن همومهم وأفراحهم.
في هذا المقال، سأصحبكم، أنا أخوكم أكرم ليتيم، في رحلة إلى أعماق هذا الفن الأصيل. سنستكشف معاً جذوره التاريخية، ونحلل بنيته الموسيقية والشعرية، ونتوقف عند محطات آبائه المؤسسين، من الحاج محمد العنقى إلى الهاشمي قروابي وعمر الزاهي ودحمان الحراشي، لنفهم كيف استطاع هذا الفن أن يصبح "بلوز الجزائر"، صوت الروح العميقة لهذه الأمة.
الجذور والتكوين: ولادة فن من رحم التراث
1. الإرث الأندلسي: موسيقى "الصنعة"
الرافد الأساسي الذي نهل منه الشعبي هو موسيقى "الصنعة"، وهي مدرسة الموسيقى الأندلسية الخاصة بمدينة الجزائر. بعد هجرة الأندلسيين إلى شمال إفريقيا، حافظت مدن مثل الجزائر وتلمسان وقسنطينة على هذا التراث الكلاسيكي الراقي. تتميز "الصنعة" ببنيتها المعقدة القائمة على نظام "النوبات" و "الطبوع" (المقامات)، وبطابعها الأرستقراطي الذي كان محصوراً في قصور الأعيان والزوايا الدينية.
2. الرافد الشعري: ديوان "الملحون"
إذا كانت "الصنعة" قد منحت الشعبي هيكله الموسيقي، فإن "الملحون" قد منحه روحه ولسانه. الملحون هو شعر شعبي مكتوب باللغة الدارجة، ازدهر في المغرب والجزائر، وتناول كل أغراض الشعر من غزل ومديح وحكمة وقصص. كانت قصائد الملحون الطويلة (القصايد) هي المادة الأساسية التي اعتمد عليها شيوخ الشعبي الأوائل.
3. الميلاد في القصبة: الحاج محمد العنقى
في بداية القرن العشرين، وفي قلب قصبة الجزائر النابضة بالحياة، بدأت ملامح فن جديد بالتشكل. كان العامل الحاسم هو ظهور شخصية فذة، هو الشيخ الحاج محمد العنقى (1907-1978)، الذي يُعتبر بالإجماع الأب المؤسس لفن الشعبي.
ما فعله العنقى كان ثورة حقيقية. لقد أخذ موسيقى الصنعة الأرستقراطية، وأخرجها من صالوناتها المغلقة إلى المقاهي الشعبية والأعراس. قام بتبسيط بعض هياكلها المعقدة، وأعطاها طابعاً أكثر حرية وارتجالاً. والأهم من ذلك، أنه جعل من قصيدة الملحون الطويلة محور الأداء، وأعطى للكلمة وللقصة مكانة مركزية. كما يُنسب إليه الفضل في إدخال آلة "المندول" إلى جوق الشعبي، والتي أصبحت الآلة الرمزية لهذا الفن.
بنية القصيدة الشعبية: رحلة موسيقية متكاملة
الأداء في فن الشعبي ليس مجرد غناء لأغنية، بل هو "قعدة" (جلسة) أو رحلة موسيقية متكاملة، لها طقوسها وقواعدها التي وضع أسسها الحاج محمد العنقى. تتكون هذه الرحلة من عدة أجزاء:
1. التوشية (المقدمة الآلية)
تبدأ الجلسة عادة بـ "توشية"، وهي مقطوعة موسيقية آلية مأخوذة من تراث الصنعة، وظيفتها ضبط الآلات وتهيئة الأجواء، واستعراض براعة العازفين.
2. الاستخبار
بعد التوشية، يأتي الجزء الأكثر روحانية وتعبيرية، وهو "الاستخبار". هو عبارة عن مقدمة غنائية مرتجلة وغير موقعة إيقاعياً، يؤديها الشيخ بمصاحبة آلته فقط (الماندول). في الاستخبار، يستعرض الشيخ قدراته الصوتية، وبراعته في الانتقال بين المقامات، ويقدم "طبع" القصيدة التي سيغنيها. الاستخبار هو لحظة تجلٍ فني خالص، وهو بصمة كل شيخ.
3. القصيدة
هي قلب الجلسة. يقوم الشيخ بغناء قصيدة طويلة من شعر الملحون، مقسمة إلى "أبيات". يفصل بين كل بيت وآخر لازمة موسيقية قصيرة تسمى "الكورس". دور الشيخ هنا ليس مجرد الغناء، بل هو دور "الحكواتي" الذي يروي قصة أو يقدم حكمة، ويجب أن يوصل معنى الكلمات بوضوح وإحساس.
4. الخاتمة (الانصراف أو المخيلص)
تنتهي الجلسة عادة بقطعة سريعة ومبهجة، تكون إما "انصرافاً" أو "مخيلصاً" من تراث الصنعة، أو أغنية خفيفة من الريبرتوار الشعبي. هذه الخاتمة ترفع من إيقاع الجلسة وتنهيها بجو من الفرح والنشاط.
أعمدة الفن: شيوخ صنعوا تاريخ الشعبي
بعد الحاج محمد العنقى، ظهر جيل من العمالقة الذين بنوا على أساسه وأضافوا إلى هذا الفن أبعاداً جديدة، كلٌ بأسلوبه الخاص:
الهاشمي قروابي (1938-2006)
إذا كان العنقى هو الأب المؤسس، فإن القروابي هو المجدد الأنيق. تميز بصوته الفريد المبحوح "الذبحة"، وبحضوره المسرحي الراقي. استطاع أن يفتح الشعبي على مواضيع أكثر عصرية، وأصبح صوتاً للحنين والغربة، خاصة في أغانيه الخالدة مثل "البارح" و "الورقة". كما كان سلطاناً في أداء "الانصرافات" الأندلسية، مشكلاً جسراً بين الصنعة والشعبي.
عمر الزاهي (1941-2016)
يمثل عمر الزاهي الوجه الصوفي والروحاني للشعبي. كان فناناً زاهداً، بعيداً عن الأضواء، لكنه كان يملك قاعدة جماهيرية هائلة تعشقه. تميز باختياراته الشعرية العميقة، خاصة من ديوان سيدي لخضر بن خلوف، وبأدائه المتجرد الذي يركز على المعنى والروحانية أكثر من الزخرفة. "قعداته" كانت أشبه بجلسات ذكر صوفية.
دحمان الحراشي (1926-1980)
هو صوت الشعب بامتياز، صوت المهاجرين و"الزوالية" (الفقراء). تميزت كلماته ببساطتها وعمقها الفلسفي، حيث تناول قضايا اجتماعية وإنسانية عالمية بأسلوب مباشر وصادق. أغنيته "يا الرايح" أصبحت نشيداً عالمياً لكل المغتربين، وتعتبر من أكثر الأغاني الجزائرية شهرة في العالم.
كمال مسعودي (1961-1998)
هو "الشهيد" الذي أعطى للشعبي نفساً جديداً في التسعينيات. بكلماته الحزينة وألحانه الشجية، استطاع أن يلامس قلوب جيل الشباب الذي كان يعيش فترة صعبة من تاريخ الجزائر. أغانيه مثل "يا دزاير" و "الشمعة" أصبحت رمزاً لهذا الجيل.
خاتمة: الشعبي.. فن لا يموت
إن فن الصنعة الشعبي الجزائري هو أكثر من مجرد موسيقى، هو مدرسة في الحياة. هو الفن الذي يعلمنا الصبر من خلال قصائده الطويلة، ويعلمنا الحكمة من خلال أمثاله، ويعلمنا جمال اللغة من خلال شعره، ويعلمنا عمق الإحساس من خلال أصوات شيوخه.
اليوم، يواجه الشعبي تحديات العصر، من سرعة وتسطيح، لكنه لا يزال حياً، يتنفس في أزقة القصبة، وفي قلوب عشاقه. ما دام هناك من يستمع إلى "يا الرايح" في غربته، أو يتحسر على شبابه مع "البارح"، أو يبكي على ذنوبه مع "نبكي على ذنوبي"، فسيظل فن الشعبي هو صوت الجزائر الذي لا يهدأ، وروحها التي لا تموت.
المصادر والمراجع
- بن دعماش، عبد القادر. الحاج م'حمد العنقى: عبقرية ومسيرة. منشورات القصبة.
- سعد الله، فوزي. (2009). يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب. دار قرطبة، الجزائر.
- أرشيف الإذاعة والتلفزيون الجزائري.
- مقالات وأبحاث أكاديمية حول تاريخ الموسيقى الأندلسية والشعبية في الجزائر.
- شهادات ولقاءات مع فنانين وباحثين في التراث الجزائري.
هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.
نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم