الفنان أكرم ليتيم
بإشراف: أكرم ليتيم

فنان وباحث في التراث الشعبي الجزائري

في هذا الموقع، أقدم لكم شروحات دسمة ومحتوى احترافي. أستعين بالذكاء الاصطناعي كنقطة انطلاق، لكن كل معلومة تخضع لمراجعتي الدقيقة، مع استشارة مستمرة لمشايخ وفنانين مختصين لضمان الأصالة والموثوقية.

خط المقال

اختر الخط المفضل لديك للقراءة:

من الغرناطي إلى الفلامنكو: هل حقاً هناك جذر أندلسي مشترك؟

من الغرناطي إلى الفلامنكو: هل حقاً هناك جذر أندلسي مشترك؟

من الغرناطي إلى الفلامنكو: هل حقاً هناك جذر أندلسي مشترك؟

بقلم: الفنان الشعبي أكرم ليتيم
مقدمة: لغز البحر المتوسط الموسيقي

عندما تستمع إلى "نوبة" من موسيقى الصنعة أو الغرناطي في إحدى ليالي الجزائر أو تلمسان، ثم تنتقل عبر البحر الأبيض المتوسط لتستمع إلى "سيكيريا" حزينة في أحد كهوف غرناطة، لا بد أن تشعر برابط خفي، بصدى روحي يجمع بين هذين الفنين العظيمين. هذا الشعور ليس مجرد انطباع عابر، بل هو مدخل إلى واحد من أكثر الأسئلة إثارة للجدل في تاريخ الموسيقى: هل هناك جذر أندلسي مشترك بين الموسيقى الأندلسية الكلاسيكية (بفروعها كالغرناطي والصنعة) وبين فن الفلامنكو الإسباني؟

هذا السؤال ليس مجرد بحث أكاديمي، بل هو رحلة في الذاكرة الثقافية لمنطقة شكلتها قرون من التعايش والتلاقح والصراع. من جهة، لدينا الغرناطي، الفن الأرستقراطي الذي حافظ على بنية "النوبة" الأندلسية بكل تفاصيلها، والذي يمثل الحنين إلى الفردوس المفقود. ومن جهة أخرى، لدينا الفلامنكو، صرخة الألم والتمرد التي ولدت من رحم معاناة الغجر (الخيتانوس) والموريسكيين في جنوب إسبانيا بعد سقوط الأندلس.

في هذا المقال، سأحاول، أنا أخوكم أكرم ليتيم، أن أقدم قراءة متعمقة لهذا اللغز، مستعيناً بالتاريخ والموسيقى وعلم الاجتماع. سنفكك بنية كل فن على حدة، ونقارن بين مقاماتهما وإيقاعاتهما وأساليبهما الغنائية، لنرى ما إذا كان هذا "الجذر المشترك" حقيقة تاريخية أم مجرد تشابه سطحي. هدفنا هو الوصول إلى فهم أعمق لهذين الفنين، وتقدير رحلة كل منهما، سواء كانت رحلة حفظ ووفاء للتراث، أو رحلة تمرد وإبداع من قلب المعاناة.

البوتقة الأندلسية: سياق تاريخي مشترك

الأندلس: مختبر التلاقح الحضاري

لفهم أي علاقة محتملة بين الغرناطي والفلامنكو، يجب أن نبدأ من نقطة الأصل: الأندلس. على مدى ثمانية قرون (711-1492)، كانت شبه الجزيرة الإيبيرية تحت الحكم الإسلامي، وشكلت مختبراً فريداً للتفاعل الحضاري بين العرب والبربر والأيبيريين الأصليين (القوط الغربيين) واليهود. هذا التفاعل لم يكن دائماً سلمياً، لكنه أنتج حضارة من أروع ما عرفته البشرية، وكانت الموسيقى في قلب هذه الحضارة.

زرياب: مهندس الموسيقى الأندلسية

يعتبر وصول الموسيقي العباسي "أبو الحسن علي بن نافع"، الملقب بـ "زرياب"، إلى قرطبة في القرن التاسع الميلادي، نقطة تحول في تاريخ الموسيقى في الأندلس. لم يكن زرياب مجرد مغنٍ أو عازف، بل كان منظّراً ومجدداً. يُنسب إليه تأسيس أول معهد للموسيقى في العالم، وتطوير آلة العود بإضافة وتر خامس، والأهم من ذلك، وضع أسس "النوبة" الأندلسية.

النوبة، في مفهومها الزريابي، هي متتالية من المقطوعات الشعرية والموسيقية التي تتبع طبعاً (مقاماً) واحداً، وتتدرج في إيقاعاتها من البطيء إلى السريع، وكانت تُعزف في أوقات محددة من اليوم لتناسب الحالة النفسية للإنسان. هذا المفهوم المنظم والكلاسيكي هو الذي ورثته موسيقى الصنعة والغرناطي.

الموشح والزجل: الشعر يغني بالعامية

إلى جانب الموسيقى، شهدت الأندلس ثورة شعرية تمثلت في ظهور "الموشح" و "الزجل". هذان الفنّان الشعريان تحررا من قيود القصيدة العربية التقليدية، واستخدما اللغة العامية الأندلسية، بل وأحياناً كلمات من اللغة الرومانسية (الإسبانية القديمة) في "الخرجة". هذا التزاوج بين الفصيح والعامي، وبين الشعر والموسيقى، هو سمة أساسية مشتركة سنجد صداها لاحقاً في كل من الغرناطي والفلامنكو.

1492: لحظة الانفصال الكبرى

يمثل عام 1492، عام سقوط غرناطة، لحظة الانفصال المأساوية التي ستحدد المسار المختلف لكل من الفنين. مع انتهاء الحكم الإسلامي، بدأت محاكم التفتيش، وخُيّر المسلمون واليهود بين التنصير أو النفي أو الموت. هذا الحدث أدى إلى مسارين مختلفين:

  1. مسار الهجرة والحفظ: هاجرت أعداد كبيرة من العائلات الأندلسية (مسلمة ويهودية) إلى شمال إفريقيا، حاملة معها تراثها الموسيقي الكلاسيكي الراقي. في مدن مثل تلمسان والجزائر وفاس وتطوان، وجد هذا الفن بيئة حاضنة حافظت عليه وطورته، ليصبح ما نعرفه اليوم بالغرناطي والصنعة والآلة. هذا المسار هو مسار "الحفظ والوفاء".
  2. مسار البقاء والمقاومة: بقي في الأندلس "الموريسكيون" (المسلمون الذين أجبروا على التنصير)، بالإضافة إلى جماعات الغجر (الخيتانوس) التي كانت قد بدأت بالوصول إلى إسبانيا في القرن الخامس عشر. هاتان المجموعتان، مع الفلاحين الأندلسيين الفقراء، تعرضوا للاضطهاد والتهميش. من رحم معاناتهم المشتركة، وفي الخفاء، بدأت تتشكل بذور فن جديد، هو الفلامنكو. هذا المسار هو مسار "المقاومة والتحول".
موسيقى الغرناطي: ذاكرة الفردوس المفقود

تعريف وخصائص

الغرناطي، كما يدل عليه اسمه، هو مدرسة الموسيقى الأندلسية التي تعود أصولها إلى مملكة غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس. بعد الهجرة، أصبحت مدينة تلمسان في غرب الجزائر هي الحاضنة الرئيسية لهذا الفن، مع وجود مدارس أخرى مهمة في المغرب (وجدة والرباط). الغرناطي هو فن "كلاسيكي" بامتياز، يتميز بالرصانة والأناقة والالتزام الصارم بالقواعد الموروثة.

بنية النوبة الغرناطية

تتمحور موسيقى الغرناطي حول "النوبة"، وهي بناء موسيقي متكامل ومحكم. تتكون النوبة من سلسلة من المقطوعات المرتبة ترتيباً دقيقاً حسب إيقاعها (الميزان):

  • التوشية: مقدمة آلية مهيبة على إيقاع رباعي (4/4).
  • المصدّر: أول قطعة غنائية، على إيقاع بطيء ووقور (6/4).
  • البطايحي: قطعة غنائية أسرع قليلاً من المصدر (8/4).
  • الدرج: قطعة غنائية على إيقاع رباعي بسيط (4/4)، وهو قلب النوبة.
  • الانصراف: قطعة غنائية سريعة وراقصة (6/8).
  • المخيلص: خاتمة آلية أو غنائية خفيفة وسريعة جداً.

هذا الترتيب الصارم يعكس الطبيعة الكلاسيكية والأرستقراطية لهذا الفن.

الطبوع والموازين

يعتمد الغرناطي على نظام "الطبوع" (المقامات)، وهو نظام موسيقي متطور يرتبط بالمقامات العربية الشرقية لكنه يحتفظ بخصوصيته. لكل طبع (مثل رمل الماية، الزيدان، الغريب) شخصيته وأجواؤه الخاصة. كما يعتمد على "الموازين" (الإيقاعات) المركبة والمعقدة التي تتطلب مهارة عالية من العازفين.

الجوهر: الوفاء للتراث

إن جوهر فن الغرناطي هو "الوفاء". هو فن يهدف إلى الحفاظ على التراث الأندلسي كما هو، بكل تفاصيله وقواعده. هو تعبير عن الحنين إلى الماضي الذهبي، إلى "الفردوس المفقود". لذلك، فإن الارتجال فيه محدود جداً، والتركيز يكون على دقة الأداء وجمال الصوت وتقديم النص الشعري (القصائد الملحونة) بأبهى حلة.

فن الفلامنكو: صرخة من أعماق الأندلس

تعريف وأصول

الفلامنكو هو فن شعبي، نشأ وتطور في منطقة الأندلس بجنوب إسبانيا، خاصة في المثلث الذهبي (إشبيلية، قادس، خيريز). هو فن مركب يتكون من ثلاثة عناصر: الغناء (Cante)، الرقص (Baile)، والعزف على الغيتار (Toque). على عكس الغرناطي، الفلامنكو ليس فناً أرستقراطياً، بل هو فن ولد من رحم معاناة الفئات المهمشة: الغجر (الخيتانوس)، الموريسكيين، والفلاحين الفقراء.

الـ "كانتي خوندو" وروح "الدوندي"

جوهر الفلامنكو هو "الكانتي خوندو" (Cante Jondo) أو "الغناء العميق". هو غناء بدائي، حزين، ومأساوي، يعبر عن أعمق المشاعر الإنسانية: الحب، الموت، الألم، والقدر. يتميز هذا الغناء بأسلوبه المتهدج، واستخدامه للصيحات الحزينة (¡Ay!)، وبقدرته على إثارة حالة من الوجد العميق التي يسميها الإسبان "الدوندي" (Duende)، وهي تلك الروح الغامضة التي تسكن الفنان وتجعله يتجاوز حدود التقنية ليصل إلى جوهر الإحساس.

الـ "بالوس" والـ "كومباس"

لا يعتمد الفلامنكو على بنية "النوبة" الثابتة، بل على نظام الـ "بالوس" (Palos)، وهي أنماط أو قوالب غنائية وإيقاعية مختلفة، لكل منها طابعه الخاص (مثل السيكيريا الحزينة، أو الأليغرياس الفرحة). العمود الفقري لهذه الـ "بالوس" هو "الكومباس" (Compás)، وهو الدورة الإيقاعية المعقدة (غالباً 12 نبضة) التي يلتزم بها المغني والعازف والراقص، والتي تمنح الفلامنكو نبضه الفريد.

الجوهر: الارتجال والتعبير عن الذات

إن جوهر الفلامنكو هو "الارتجال" و "التعبير عن الذات". على الرغم من وجود قوالب (بالوس)، إلا أن الفنان الحقيقي هو من يستطيع أن يملأ هذا القالب بروحه وإحساسه. هو فن اللحظة، فن يولد من جديد في كل مرة يُؤدى فيها. هو ليس حنيناً إلى الماضي، بل هو تعبير صارخ عن الحاضر، عن الألم والفرح في لحظتهما الآنية.

البحث عن الجذر المشترك: تحليل مقارن

بعد أن استعرضنا طبيعة كل فن على حدة، نأتي الآن إلى السؤال المحوري: أين تتقاطع المسارات؟ هل التشابهات التي نسمعها هي مجرد صدفة، أم أنها دليل على أصل مشترك؟

1. التشابه المقامي (اللحني)

هذه هي النقطة الأقوى والأكثر وضوحاً. يعتمد الكثير من "الكانتي خوندو" في الفلامنكو على ما يُعرف بـ "السلم الأندلسي" أو "السلم الفريجي" (Phrygian Mode). هذا السلم يتميز بوجود مسافة "الثانية الزائدة" التي تعطيه طابعاً شرقياً مميزاً. عند تحليل هذا السلم، نجد أنه يتطابق بشكل شبه كامل مع مقام "الحجاز" العربي، وهو من المقامات الأساسية المستخدمة في موسيقى الصنعة والغرناطي. هذا التشابه لا يمكن أن يكون وليد صدفة، بل هو دليل قوي على تأثر الفلامنكو بالنظام المقامي الأندلسي-العربي.

2. التشابه الإيقاعي

على الرغم من اختلاف "الموازين" الأندلسية عن "الكومباس" في الفلامنكو، إلا أنهما يشتركان في مبدأ "الدورة الإيقاعية المركبة". فكلاهما يعتمد على دورات إيقاعية طويلة ومعقدة (مثل 12/8 أو 6/8) بدلاً من الإيقاعات البسيطة (2/4 أو 4/4) السائدة في الموسيقى الأوروبية. هذا المفهوم للدورة الإيقاعية هو أيضاً من الموروثات الشرقية والأندلسية.

3. التشابه في أسلوب الأداء الصوتي

هناك تشابهات مذهلة في تقنيات الأداء الصوتي:

  • الزخرفة الصوتية (Melisma): كلا الفنين يستخدمان بكثافة تقنية الـ "ميليزما"، وهي تزيين مقطع لفظي واحد بعدة نغمات. في الغرناطي، تظهر هذه الزخرفة بشكل متقن ومدروس. في الفلامنكو، تظهر بشكل أكثر عفوية وحرقة، خاصة في صيحات الـ "Ay!".
  • الطابع الأنفي (Nasal quality): بعض أنواع "الكانتي خوندو" تتميز بطابع صوتي أنفي يذكرنا ببعض أساليب الغناء في شمال إفريقيا.
  • الغناء خارج الإيقاع (Rubato): في المقاطع الحرة (مثل "الاستخبار" في الشعبي أو بعض مقدمات "الكانتي")، يستخدم المغني أسلوباً متحرراً من الإيقاع، وهو ما نجده في كلا التقليدين.

4. التشابه في المواضيع الشعرية

تتناول قصائد الملحون مواضيع الحب العذري، الشوق، الفراق، والحنين إلى الماضي. وبالمثل، تتناول كلمات الفلامنكو (Letras) مواضيع الحب المستحيل، الألم، الموت، والقدر. كلاهما يعبر عن تجربة إنسانية عميقة، وإن كان الغرناطي يميل إلى التعبير الأنيق والمجازي، بينما يميل الفلامنكو إلى التعبير المباشر والصارخ.

خاتمة: جذر واحد... شجرتان مختلفتان

بعد هذه الرحلة، يمكننا أن نخلص إلى أن العلاقة بين الغرناطي والفلامنكو ليست علاقة "أب بابنه"، بل هي علاقة "أبناء عمومة" افترقوا منذ زمن بعيد، ونشأ كل منهم في بيئة مختلفة تماماً.

الجذر المشترك حقيقي ومؤكد. كلاهما نبت من تربة الأندلس الخصبة، وورث منها مقاماتها وإيقاعاتها وأشكالها الشعرية. لكن بعد عام 1492، سلك كل منهما طريقه الخاص:

  • الغرناطي هاجر إلى شمال إفريقيا، ودخل قصور السلاطين وبيوت الأعيان، فحافظ على طابعه الكلاسيكي الأرستقراطي، وأصبح فناً للذاكرة والحنين إلى الفردوس المفقود.
  • الفلامنكو بقي في الأندلس، لكنه نزل إلى الكهوف والأحياء الفقيرة، واختلط بآلام الغجر والموريسكيين، فتحول من فن للذاكرة إلى فن للمقاومة والبقاء. لقد فقد شكله الكلاسيكي، لكنه اكتسب قوة تعبيرية هائلة وروحاً جديدة هي "الدوندي".
إن الغرناطي هو ما كانت عليه موسيقى الأندلس، والفلامنكو هو ما أصبحت عليه روح الأندلس بعد أن جُرحت. الأول هو قصيدة متقنة، والثاني هو صرخة من القلب. لكن كليهما، في النهاية، يغني بنفس الشوق، ويروي، كلٌ على طريقته، حكاية تلك الأرض الساحرة التي لا تزال تلهمنا حتى اليوم.
المصادر والمراجع
  • سعد الله، فوزي. (2009). يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب. دار قرطبة، الجزائر.
  • Ríos Ruiz, Manuel. (1997). Ayer y hoy del cante flamenco. Ediciones Istmo.
  • Pohren, Donn E. (1990). The Art of Flamenco. Bold Strummer Ltd.
  • Reynolds, Dwight F. (2015). The Cambridge Companion to Modern Arab Culture. Cambridge University Press. (فصول عن الموسيقى الأندلسية).
  • أبحاث ودراسات متنوعة حول تاريخ الأندلس والموريسكيين والغجر.
معلومات حقوق النشر

هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.

نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق