الفنان أكرم ليتيم
بإشراف: أكرم ليتيم

فنان وباحث في التراث الشعبي الجزائري

في هذا الموقع، أقدم لكم شروحات دسمة ومحتوى احترافي. أستعين بالذكاء الاصطناعي كنقطة انطلاق، لكن كل معلومة تخضع لمراجعتي الدقيقة، مع استشارة مستمرة لمشايخ وفنانين مختصين لضمان الأصالة والموثوقية.

خط المقال

اختر الخط المفضل لديك للقراءة:

الشيخ سعيد المنداسي: صوت تلمسان الحكيم وشاعر الزهد والغزل

الشيخ سعيد المنداسي: صوت تلمسان الحكيم وشاعر الزهد والغزل

الشيخ سعيد المنداسي: صوت تلمسان الحكيم وشاعر الزهد والغزل

بقلم: الفنان الشعبي أكرم ليتيم
مقدمة: منبع الشعر في حاضرة الغرب الجزائري

لكل فن عظيم آباء مؤسسون، شخصيات تقف عند منعطفات التاريخ لتضع حجر الأساس، وترسم الملامح الأولى لهوية فنية ستستمر لأجيال. في ديوان الشعر الملحون الجزائري، يعتبر الشيخ سعيد المنداسي (القرن السادس عشر) أحد هؤلاء الآباء المؤسسين. هو ليس مجرد شاعر من شعراء مدرسة تلمسان، بل هو منبعها الأول، والصوت الذي جسر الهوة بين الإرث الأندلسي العريق وبين الروح الجزائرية الخالصة التي بدأت تتشكل في ذلك العصر.

يمثل المنداسي نموذجاً فريداً للشاعر الصوفي الذي امتزجت حياته بفنه. لم يكن الشعر عنده مجرد ترف فكري أو وسيلة للتكسب، بل كان تعبيراً عن تجربة روحية عميقة، ووسيلة للتربية والأخلاق. تنقل في قصائده بين الزهد والموعظة، والغزل العذري، والمديح النبوي، بأسلوب يجمع بين رقة اللفظ وعمق المعنى، وبساطة التعبير وقوة التأثير.

في هذا المقال، سأصحبكم، أنا أخوكم أكرم ليتيم، في رحلة إلى عالم هذا الشاعر الفذ. سنغوص في السياق التاريخي لمدينة تلمسان في القرن السادس عشر، هذه الحاضرة التي كانت بمثابة "غرناطة الثانية"، وسنتتبع مسيرة المنداسي كشاعر وحائك وصوفي، ونحلل خصائص أسلوبه، ونتوقف عند أهم قصائده التي جعلته أحد أهم الأصوات في تاريخ الشعر الشعبي الجزائري والمغاربي.

السياق التاريخي: تلمسان.. وريثة غرناطة

تلمسان: عاصمة الزيانيين وملجأ الأندلسيين

لكي نفهم شعر سعيد المنداسي، يجب أن نفهم روح المدينة التي أنجبته: تلمسان. في القرن السادس عشر، كانت تلمسان تعيش فترة انتقالية حاسمة. بعد أن كانت عاصمة مزدهرة للدولة الزيانية لقرون، بدأت تشهد أفول نجمها السياسي مع صعود القوة العثمانية في الجزائر. لكن هذا التراجع السياسي لم يمنعها من أن تظل منارة ثقافية وعلمية وفنية في المغرب الأوسط.

الأهم من ذلك، أن تلمسان كانت، إلى جانب مدن أخرى في شمال إفريقيا، الملجأ الرئيسي للمهاجرين الأندلسيين الفارين من محاكم التفتيش بعد سقوط غرناطة. حمل هؤلاء المهاجرون معهم كنوز حضارتهم، من علوم وفنون وصناعات، وعلى رأسها الموسيقى الأندلسية والشعر. أصبحت تلمسان "وريثة غرناطة"، وحافظت على التراث الأندلسي في أنقى صوره، وهو ما يعرف اليوم بمدرسة "الغرناطي".

ولادة الملحون من رحم الصنعة

في هذا المناخ الثقافي الغني، الذي يمتزج فيه التراث الأندلسي الراقي بالثقافة المحلية الأصيلة، بدأت تتشكل ملامح فن شعري جديد، هو "الملحون". كان الملحون بمثابة تطور طبيعي للزجل الأندلسي، لكنه استخدم اللغة الدارجة المحلية بشكل أوسع، وتناول مواضيع أكثر ارتباطاً بحياة الناس اليومية. كان سعيد المنداسي أحد رواد هذا التحول، فهو من الجيل الأول من الشعراء الذين بدأوا في "جزأرة" هذا الفن، وإعطائه هويته المحلية الخاصة.

سيرة حياته: الشاعر الحائك

الأصول والنشأة

وُلد الشيخ سعيد بن عبد الله المنداسي في قرية "منداس" الواقعة في جبال بني ورنيد بالقرب من تلمسان، وذلك في أواخر القرن السادس عشر الميلادي. نشأ في بيئة ريفية بسيطة، لكنه انتقل في شبابه إلى مدينة تلمسان لطلب العلم والعمل.

الحائك الشاعر

امتهن المنداسي، كالكثير من شعراء الملحون، حرفة الحياكة. لم تكن هذه مجرد مهنة لكسب العيش، بل كانت جزءاً من هويته كفنان. فالحياكة، بكل ما تتطلبه من دقة وصبر وتنسيق للألوان والخيوط، تشبه إلى حد كبير عملية نظم القصيدة الملحونة، ببنيتها المعقدة وأوزانها الدقيقة. كان "الحائك" هو الفنان الذي ينسج الكلمات كما ينسج الخيوط، ليخلق منها "حلة" أو "قصيدة" بديعة.

الشاعر الصوفي

كان المنداسي متصوفاً، ينتمي إلى الطريقة الشاذلية. هذا الانتماء الروحي هو المفتاح لفهم الجانب الأعمق من شعره. لم يكن التصوف عنده مجرد ترديد للأذكار، بل كان منهج حياة، ورؤية للعالم. يظهر ذلك جلياً في قصائده الزهدية التي تدعو إلى التخلي عن الدنيا الفانية، والتطلع إلى الآخرة الباقية. كما أن غزله العذري غالباً ما يحمل أبعاداً صوفية، حيث يصبح جمال المحبوبة الدنيوية رمزاً للجمال الإلهي المطلق.

الأسلوب الشعري والخصائص الفنية

يعتبر سعيد المنداسي صاحب أسلوب متميز، يجمع بين البساطة الظاهرية والعمق الدلالي.

1. لغة "السهل الممتنع"

يستخدم المنداسي لغة دارجة تلمسانية راقية، قريبة من الفهم، لكنها في نفس الوقت غنية بالصور البلاغية والمعاني العميقة. هو يبتعد عن التكلف اللفظي والزخارف الزائدة، ويركز على إيصال المعنى بأصدق وأجمل عبارة. هذا الأسلوب، الذي يسمى "السهل الممتنع"، هو ما أعطى لشعره هذا القبول الواسع والخلود.

2. غلبة الطابع الزهدي

الغرض الأساسي الذي اشتهر به المنداسي هو "الزهد" (الزهديات). قصائده في هذا المجال هي عبارة عن مواعظ بليغة، يذكر فيها الإنسان بحقيقة الموت، وفناء الدنيا، وضرورة الاستعداد ليوم الحساب. يتميز أسلوبه في الموعظة بالهدوء واللين، فهو لا يزجر ولا يهدد، بل ينصح ويرشد كأب حكيم.

"يا غافلا تفيق من منامك / واحسب كل ما جنيت في صحيفتك / يوم لا ينفع مال لا غلامك / ولا صديق ينجيك من وهدتك"

3. الغزل العذري الصوفي

إلى جانب الزهد، نظم المنداسي قصائد رائعة في "العشاقي" (الغزل). لكن غزله يختلف عن غزل الكثير من شعراء الملحون. هو غزل عذري، عفيف، يركز على الجمال الروحي والمعنوي للمحبوبة، أكثر من الجمال الحسي. غالباً ما تكون المحبوبة في شعره رمزاً للحقيقة الإلهية، ويكون الشوق إليها شوقاً للوصال الرباني.

4. البناء المحكم للقصيدة

كان المنداسي متقناً لبناء القصيدة الملحونة، بأقسامها المتعددة (الحربة، القسم، الصياح). قصائده تتميز بتماسكها المنطقي، وتدرجها السلس من فكرة إلى أخرى، مما يدل على تمكنه من "صنعة" الشعر.

الإرث والتأثير: منبع مدرسة تلمسان

مؤسس مدرسة تلمسان

يُجمع الباحثون على أن سعيد المنداسي هو المؤسس الحقيقي لمدرسة تلمسان في الشعر الملحون. لقد وضع الأسس الشعرية والموضوعية التي سيسير عليها كبار شعراء تلمسان من بعده، مثل بومدين بن سهلة وأحمد بن تريكي. الطابع الصوفي، والتركيز على الحكمة والزهد، واللغة الراقية، كلها سمات أصبحت من خصائص هذه المدرسة العريقة.

حضوره الدائم في موسيقى الغرناطي

إن أكبر دليل على خلود شعر المنداسي هو حضوره الدائم في ريبرتوار موسيقى الغرناطي. لا تكاد تخلو "نوبة" من قصيدة لسعيد المنداسي. لقد تبنى كبار شيوخ الغرناطي قصائده ولحنوها، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من هذا التراث. عندما تستمع اليوم إلى "انصراف" أو "درج" في طبع "الزيدان" أو "رمل الماية"، فغالباً ما تكون الكلمات هي كلمات هذا الشاعر الحكيم.

في الختام، يظل الشيخ سعيد المنداسي قامة شعرية وروحانية شامخة. هو الشاعر الذي استطاع أن يمزج بين دقة الحائك وروحانية الصوفي وعبقرية الشاعر، ليقدم لنا ديواناً هو بحق منبع صافٍ من منابع الحكمة والجمال في تراثنا الجزائري الأصيل.

المصادر والمراجع
  • "ديوان الشعر الملحون" - تحقيق محمد بن أبي شنب.
  • "الأغنية التلمسانية في الطرب الغرناطي" - يحيى غول.
  • "الشعر الملحون الجزائري" - عبد المالك مرتاض.
  • أبحاث ودراسات متنوعة حول تاريخ مدينة تلمسان وتراثها الأندلسي.
  • تسجيلات صوتية وقراءات متعددة لقصائد الشاعر من قبل كبار شيوخ الغرناطي والشعبي.
معلومات حقوق النشر

هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.

نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق