القصيدة الملحونة: مرآة المجتمع المغاربي وصوت الحكمة الخالد
القصيدة الملحونة: مرآة المجتمع المغاربي وصوت الحكمة الخالد
مقدمة: ما وراء النغم.. الديوان الناطق
عندما نتحدث عن شعر الملحون، غالباً ما يتبادر إلى الذهن جمالياته الفنية البحتة: أوزانه المعقدة، قوافيه المبتكرة، وألحانه الشجية التي تطرب الآذان. لكن حصر الملحون في هذا الإطار الفني فقط هو ظلم كبير لهذا التراث العظيم. فالقصيدة الملحونة، في جوهرها، هي أكثر من مجرد فن؛ هي "ديوان" ناطق، سجل حي، ومرآة صافية عكست بصدق وأمانة أحوال المجتمع المغاربي عبر قرون من التحولات.
لم يكن "الشيخ" في فن الملحون مجرد شاعر أو منشد، بل كان لسان حال قومه، وحكيم زمانه، والناقد الاجتماعي الذي لا يخشى في قول الحق لومة لائم. من خلال قصائده، استطاع هؤلاء الشيوخ أن يشخصوا أمراض مجتمعاتهم، وأن ينتقدوا الانحرافات الأخلاقية، وأن يتحسروا على ضياع القيم، وأن يقدموا "وصايا" خالدة لإصلاح الفرد والمجتمع.
في هذا المقال، سأصحبكم، أنا أخوكم أكرم ليتيم، في رحلة لاستكشاف هذا البعد العميق والمهمل أحياناً في فن الملحون. سنتعمق في كيفية تحول القصيدة الملحونة من أداة للطرب إلى أداة للنقد والإصلاح. سنتوقف عند نماذج خالدة لشعراء كبار مثل قدور العلمي، لخضر بن خلوف، ومحمد بن علي ولد أرزين، لنرى كيف استخدم كل منهم شعره كمرآة تعكس عصره، وكصوت للحكمة يدعو إلى العودة للأصالة والفضيلة. هدفنا هو أن نثبت أن الملحون ليس مجرد تراث يُحتفى به، بل هو مدرسة فكرية وأخلاقية لا تزال قادرة على مخاطبتنا وإلهامنا حتى اليوم.
من الطرب إلى النقد: تحول دور الشاعر
الجذور الأندلسية: فن الصفوة
ورث الملحون عن أصله الأندلسي (الزجل والموشح) طابعه الغزلي والخمري. في البداية، كان فناً يُمارس في مجالس الصفوة والأعيان، وكانت أغراضه الرئيسية تدور حول وصف الجمال، والتغني بالحب، ووصف مجالس الأنس والطبيعة. كان الشاعر في هذه المرحلة فناناً يهدف إلى إطراب مستمعيه وإمتاعهم.
الشاعر الشعبي: ضمير الأمة
لكن مع تجذر هذا الفن في التربة المغاربية، وخروجه من الصالونات المغلقة إلى الفضاء العام (الأسواق، المقاهي، الساحات)، بدأ دور الشاعر يتغير. لم يعد مجرد "مطرب"، بل أصبح "حكواتياً" و "حكيماً". أصبح صوته هو صوت الناس، يعبر عن آمالهم وآلامهم. وبحكم مكانته المرموقة في المجتمع، شعر هؤلاء الشيوخ بمسؤولية أخلاقية تجاه مجتمعاتهم. رأوا الانحرافات، وشعروا بوطأة الظلم، وعاينوا تقلبات الدهر، فلم يسعهم إلا أن يعبروا عن ذلك في شعرهم.
هكذا، بدأت القصيدة الملحونة تتسع لتشمل أغراضاً جديدة، وعلى رأسها "الحكمة" و "الشكوى" و "النقد الاجتماعي". لم يعد الشاعر يصف فقط جمال "الغزال"، بل أصبح يصف أيضاً أمراض مجتمعه، ويقدم لها "الدواء" على شكل وصايا وحكم.
قدور العلمي: صرخة في وجه النفاق الاجتماعي
يعتبر الشيخ قدور العلمي (أو عبد القادر العلمي) من مدينة مكناس، أحد أبرز الأصوات التي جسدت هذا التحول. قصائده، وخاصة قصيدة "البلاء فالخلطة"، هي بمثابة تشريح دقيق ومؤلم لآفات المجتمع.
الحكمة الأساسية: "البلاء فالخلطة والربح فالاعتزال"
يقدم العلمي في هذه القصيدة أطروحة فلسفية واضحة: مخالطة الناس في زمن فسدت فيه الأخلاق هي مصدر البلاء، والنجاة تكمن في اعتزالهم. هذه ليست دعوة للرهبنة، بل هي نقد لاذع لمجتمع فقد قيمه الأساسية.
"البلاء فالخلطة والربح فالاعتزال / من تقول حبيبك تلقاه سم قاتل"
هذه الحربة تلخص تجربة مريرة مع الخيانة والغدر، حيث لم يعد الصديق صديقاً، بل أصبح "سماً قاتلاً".
نقد النفاق وعبادة المال
يغوص العلمي في تفاصيل هذا الفساد الاجتماعي. ينتقد النفاق الذي أصبح السمة الغالبة، فالوجوه مبتسمة والقلوب مليئة بالحقد. يصف كيف أن قيمة الإنسان لم تعد في أخلاقه، بل في ماله:
"كان كنت غني الخلايق تكونلك حباب / يصادقوك فقولك ولو تكون كاذب / الغني عند أهل البدعة شريف الانساب / لو كان بغل يتسمى حكيم طالب / الفقير كلامو بين العباد يثقال / لو يكون ضريف يتسمى ثقيل باسل"
هذه الأبيات هي صورة كاريكاتورية مريرة لمجتمع مادي، يقيم الناس فيه على أساس ما يملكون، لا على أساس ما هم عليه. هي صرخة ضد الظلم الاجتماعي الذي يرفع الوضيع ويحط من قدر الشريف.
انهيار المنظومة الأخلاقية
يستمر العلمي في تشخيص أمراض عصره، فيرى أن الحلال قد كسد وراج الحرام، وأن النميمة وشهادة الزور أصبحتا عملة رائجة. حتى أهل العلم ("الطلبة") لم يسلموا من هذا الفساد. هذا النقد الشامل يجعل من قصيدته وثيقة اجتماعية نادرة، وصرخة مدوية لا تزال تتردد حتى اليوم.
لخضر بن خلوف: المؤرخ الشعبي والنبي الشاعر
إذا كان قدور العلمي هو الناقد الاجتماعي، فإن لخضر بن خلوف هو المؤرخ الشعبي الذي استخدم الشعر ليسجل أحداث عصره الكبرى، بل ويتنبأ بمستقبله.
قصيدة "قرن 14": رؤيا متشائمة
في هذه القصيدة الفريدة، يقدم بن خلوف نفسه كمن اطلع على "سطر اللوح"، ويكشف للمؤمنين عن علامات آخر الزمان التي ستظهر في القرن الرابع عشر الهجري. هذه القصيدة هي مرآة تعكس مخاوف الشاعر من التغيرات التي بدأت تظهر في عصره، ورؤيته التشاؤمية لمستقبل القيم والأخلاق.
يصف بن خلوف عالماً تنقلب فيه الموازين:
"يعود ولد الحرام نعمَ / والعالم فالحديث يرجع ما يسواش / يكثر الظّلم والجريمة / والمفتي فالبلاد ما بين الشّوّاش"
هذه الصورة القاتمة لمجتمع يرتفع فيه الوضيع ويهان فيه العالم، ويفسد فيه الحاكم والمفتي، هي نقد جذري لأسس المجتمع. هو لا ينتقد سلوكاً فردياً، بل ينتقد انهيار المنظومة بأكملها.
الشاعر الشاهد على عصره
تكمن أهمية شعر بن خلوف في أنه لم يكن مجرد ناقد من بعيد، بل كان شاهداً ومشاركاً. قصائده الأخرى التي تؤرخ لمعركة مزغران ضد الإسبان تظهر أنه كان شاعراً ملتزماً، يرى أن من واجبه أن يسجل تاريخ أمته ويحفظ بطولاتها. هذا المزيج بين دور المؤرخ ودور الناقد الاجتماعي هو ما يعطي لشعره هذه القوة وهذا الخلود.
محمد بن علي ولد أرزين: حوار مع الذات لإصلاح المجتمع
يقدم لنا الشيخ محمد بن علي ولد أرزين منهجاً مختلفاً في النقد والإصلاح، وهو منهج "الحوار مع الذات". في قصيدته الشهيرة "يا راسي نوصيك"، لا يوجه الشاعر كلامه مباشرة إلى الناس، بل يوجهه إلى نفسه، مما يجعل الموعظة أكثر عمقاً وتأثيراً.
"يا راسي نوصيك": وصية بالاعتزال
تتكرر في هذه القصيدة لازمة هي خلاصة الحكمة التي وصل إليها الشاعر بعد تجربة مريرة مع الناس:
"يا راسي نوصيك يا الزايد تعبي وشقايا / من خلطت أهل جيلنا انعزل"
هذه الوصية بالاعتزال ليست هروباً، بل هي نتيجة منطقية لتشخيص دقيق لفساد "أهل الجيل". يصف الشاعر كيف أن من اعتبرهم أحباباً أصبحوا أعداء، وكيف أنهم يقولون عنه خيراً في وجهه وشراً في غيابه. ينتقدهم بأنهم لا يعرفون الجد من الهزل، ولا يقدرون على فهم المعاني العميقة للشعر.
نكران الجميل: جرح لا يندمل
مثل قدور العلمي، يركز ولد أرزين على آفة "نكران الجميل" كأحد أكبر أمراض المجتمع. يصف كيف أنه قدم لأصدقائه كل شيء، أطعمهم وسقاهم، وأعطاهم "الجوهر"، لكنهم كانوا كـ "البغل" الذي لا يقدر قيمة ما يقدم له. هذا الألم من خيانة الأصدقاء هو الذي يدفعه إلى قرار العزلة الحاسم.
"لا خير في نكار الطعام أشرك الخير معيا / لا خير فيه ثم يندخل / بطعامي وديتهم والبعض سقيت بمايا / والجوهر علفت للبغل"
هذه القصيدة، بأسلوبها الحواري مع الذات، تقدم نموذجاً فريداً في شعر الملحون، حيث يصبح النقد الاجتماعي تأملاً داخلياً، وتصبح الدعوة إلى الإصلاح تبدأ من إصلاح النفس أولاً.
خاتمة: الملحون.. صوت باقٍ
إن استعراضنا لقصائد هؤلاء الشيوخ العظام يؤكد لنا أن شعر الملحون كان، ولا يزال، أكثر من مجرد فن للطرب. لقد كان منبراً حراً، وصوتاً قوياً، ومرآة صادقة عكست أفراح المجتمع المغاربي وآلامه، قيمه وانحرافاته.
لقد حمل شعراء الملحون على عاتقهم أمانة الكلمة، فكانوا ضمير مجتمعاتهم، يوجهون وينتقدون ويصلحون. ورغم أنهم تحدثوا عن زمانهم، إلا أن حكمتهم تظل صالحة لكل زمان. فقضايا النفاق الاجتماعي، وغدر الأصدقاء، وفساد القيم، هي قضايا إنسانية خالدة. لذلك، عندما نستمع اليوم إلى قصيدة لقدور العلمي أو لخضر بن خلوف، فإننا لا نستمع إلى صوت من الماضي، بل نستمع إلى صوت الحكمة الذي يخاطبنا هنا والآن.
ومسؤوليتنا اليوم، كفنانين وباحثين وعشاق لهذا التراث، هي أن نحافظ على هذه الروح النقدية والإصلاحية في الملحون، وأن نضمن أن يظل هذا الفن العظيم مرآة صادقة لمجتمعنا، وصوتاً للحكمة في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إليها.
المصادر والمراجع
- الجراري، عباس. (1979). القصيدة: الزجل في المغرب. مكتبة الطالب.
- الفاسي، محمد. (1966). معلمة الملحون. أكاديمية المملكة المغربية.
- سهوم، أحمد. (تحقيق). ديوان الشيخ الجيلالي امتيرد.
- بلقاسمي، بوعلام. (تحقيق). ديوان سيدي لخضر بن خلوف: شاعر تلمسان.
- الروايات الشفهية ودواوين الشعر المحفوظة لشعراء الملحون المذكورين.
هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.
نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم