فن الانصراف: نبض الخفة والطرب في الصنعة والشعبي الجزائري
فن الانصراف: نبض الطرب العميق في الصنعة والشعبي الجزائري
مقدمة: الانصراف.. إيقاع الوقار والطرب
في عالم الموسيقى الجزائرية، هناك مصطلحات تتجاوز معناها التقني لتصبح حالة وجدانية ورمزاً ثقافياً. "الانصراف" هو أحد هذه المصطلحات. هو ليس مجرد إيقاع يمر في سياق جلسة موسيقية، بل هو لحظة من التجلي الفني العميق، هو ذروة الطرب التي ينتظرها "الذواقة" بفارغ الصبر، وهو الجسر الذهبي الذي يربط بين وقار موسيقى "الصنعة" الأندلسية وروحانية فن "الشعبي".
كلمة "انصراف" في اللغة تعني الذهاب والمغادرة، وفي سياق "النوبة" الأندلسية، كانت تعني الانصراف من الأجزاء الإيقاعية السابقة إلى جزء جديد له طابعه الخاص. لكن في مدرسة الصنعة الجزائرية وفن الشعبي الذي تفرع عنها، اكتسب الانصراف معنى أعمق: هو الانصراف إلى حالة من الطرب الروحاني، هو الانغماس في لحظة من الجمال الموسيقي الخالص الذي يجمع بين التعقيد الإيقاعي والعمق الوجداني.
في هذا المقال، سأصحبكم، أنا أخوكم أكرم ليتيم، في رحلة مفصلة لاستكشاف عالم "الانصراف". سنغوص في جذوره العريقة داخل "نوبة الصنعة"، ونحلل بنيته الإيقاعية الثقيلة والفريدة، ثم نتبع مسار تطوره ليصبح أحد أهم أركان "قعدة" الشعبي التي تختبر قدرات الشيخ والجمهور على حد سواء. سنتوقف عند براعة شيوخ الفن في أدائه، وعلى رأسهم الأسطورة الهاشمي قروابي، لنفهم كيف تحول هذا الإيقاع من مجرد جزء في بنية كلاسيكية إلى نبض حي لثقافة شعب بأكمله.
الجذور الأندلسية: الانصراف في "نوبة الصنعة"
النوبة: رحلة موسيقية منظمة
لفهم دور الانصراف، يجب أولاً أن نفهم بنية "النوبة" في موسيقى الصنعة. النوبة ليست مجرد مجموعة من الأغاني، بل هي متتالية موسيقية متكاملة ومحكمة البناء، تشبه "السيمفونية" في الموسيقى الكلاسيكية الغربية. تتكون النوبة من سلسلة من المقطوعات التي تتبع "طبعاً" (مقاماً) واحداً، وتتدرج في إيقاعاتها بشكل هرمي.
هذا التدرج ليس عشوائياً، بل هو مصمم ليأخذ المستمع في رحلة عاطفية وروحانية. الأجزاء الرئيسية للنوبة في مدرسة الجزائر (الصنعة) هي:
- التوشية: مقدمة آلية.
- المصدّر: قطعة غنائية بطيئة ووقورة.
- البطايحي: قطعة غنائية أبطأ قليلاً من المصدر.
- الدرج: قطعة غنائية متوسطة السرعة، تعتبر قلب النوبة.
- الانصراف: قطعة غنائية بإيقاع ثقيل ومركب.
- المخيلص: خاتمة سريعة جداً.
وظيفة الانصراف في النوبة
يحتل الانصراف مكانة حيوية في هذه البنية. هو يأتي بعد الأجزاء الوسطى الرصينة (الدرج)، ليعلن عن بداية مرحلة جديدة من الطرب العميق. وظيفته هي "الانصراف" أو التحول من الإيقاعات الرباعية الأكثر استقراراً إلى إيقاع خماسي أو عشري مركب، يمثل تحدياً وذروة فنية. هو ليس ختاماً راقصاً بالضرورة، بل هو لحظة إظهار البراعة والتمكن من الموازين الصعبة.
ميزان الانصراف: نبض 5/8 الثقيل
وهنا يكمن التصحيح الجوهري. على عكس مدارس أندلسية أخرى (كالمدرسة المغربية التي يكون فيها الانصراف سريعاً)، يتميز الانصراف في مدرسة الصنعة الجزائرية بإيقاعه الثقيل والوقور، وهو غالباً ميزان 5/8 أو مضاعفاته. هذا الإيقاع "الأعرج" أو غير المتناظر يمنح الموسيقى إحساساً فريداً من التمايل الرصين، وهو من أصعب الموازين أداءً واستيعاباً. هذا الإيقاع هو الذي يعطي للانصراف طابعه المميز من الفخامة والعمق.
التحول إلى الشعبي: من القصر إلى القصبة
ولادة الشعبي: فن شعبي بروح كلاسيكية
في بداية القرن العشرين، شهدت الجزائر العاصمة ولادة فن جديد هو "الشعبي". هذا الفن، الذي قاده الشيخ الحاج محمد العنقى، قام بعملية "دمقرطة" لموسيقى الصنعة. لقد أخذ هذا التراث الأرستقراطي، وأنزله من صالوناتها المغلقة إلى مقاهي القصبة وأفراح عامة الناس. في هذه العملية، لم يرفض الشعبي تراث الصنعة، بل أعاد تفسيره وتكييفه ليتناسب مع ذوق وروح العصر الجديد.
الدور الجديد للانصراف في "القعدة"
في "قعدة" الشعبي، حافظ الانصراف على مكانته كقطعة فنية رفيعة. لم يعد بالضرورة جزءاً من نوبة كاملة، بل أصبح قطعة مستقلة بذاتها، يختارها الشيخ ليظهر براعته وبراعة جوقه. غالباً ما يأتي الانصراف في منتصف السهرة أو نهايتها، ليقوم بوظيفتين أساسيتين:
- ذروة الطرب العميق: الانصراف في الشعبي هو لحظة "السلطنة" الحقيقية. هو ليس للرقص، بل هو للاستماع العميق والتفاعل الوجداني مع تعقيدات الإيقاع وجمال اللحن. هو الجزء الذي يميز "الذواقة" الحقيقيين عن المستمعين العاديين.
- اختبار للشيخ والجوق: نظراً لصعوبة إيقاعه، يعتبر أداء الانصراف اختباراً حقيقياً لمدى تمكن الشيخ وعازفيه. الحفاظ على الميزان الثقيل بدقة، ووضع الكلمات في مكانها الصحيح، يتطلب مهارة وتمرساً كبيرين.
إيقاع الانصراف: تحليل وتطبيق
فهم إيقاع 5/8
لفهم روح الانصراف، يجب فهم إيقاعه. ميزان 5/8 هو ميزان مركب وغير متناظر، يعني أن كل "مازورة" تحتوي على 5 نبضات. يتم تقسيمه غالباً إلى مجموعتين: مجموعة من نبضتين ومجموعة من ثلاث نبضات (2+3) أو العكس (3+2). هذا التقسيم غير المتساوي هو ما يعطيه طابعه "الأعرج" أو المتمايل.
يمكن تمثيله صوتياً كالتالي (بتقسيم 2+3):
1 2 | 3 4 5
DUM tak | DUM tak tak
النبضة الأولى والثالثة تكون قوية (DUM)، بينما تكون النبضات الأخرى خفيفة (tak). هذا التوزيع يخلق إحساساً بالوقار والعمق، ويتطلب تركيزاً عالياً من العازفين والمستمعين.
تطبيق عملي مع فريد فزاني
لا يوجد أفضل من التطبيق العملي لفهم هذا الإيقاع. في الفيديو التالي، يقدم الأستاذ والخبير في الإيقاعات، فريد فزاني، شرحاً مبسطاً وعملياً لكيفية عزف إيقاع الانصراف على آلة الدربوكة، مما يساعد على استيعاب تركيبته بشكل ملموس.

حقوق الفيديو محفوظة لقناة: Farid Fezzani.
فن الأداء: الهاشمي قروابي نموذجاً
قروابي: سلطان الانصراف
إذا كان لكل فن شيوخه الكبار، فإن الشيخ الهاشمي قروابي كان "سلطان الانصراف" بلا منازع. لقد امتلك قدرة فريدة على أداء هذه القطع الثقيلة والمعقدة بعمق وإحساس لا يضاهى، وهو ما جعله حالة استثنائية.
تحليل أسلوب قروابي في الانصراف
تميز أداء القروابي للانصرافات بعدة خصائص جعلته لا يضاهى:
- التمكن الإيقاعي: كان يتمتع بإحساس إيقاعي خارق، فكان يضع كل كلمة وكل مقطع في مكانه الصحيح تماماً داخل الميزان الثقيل، ويتلاعب به ببراعة تامة.
- العمق الوجداني: كان قادراً على شحن هذه القطع الوقورة بشحنة عاطفية هائلة. "ذبحته" الشهيرة كانت تضيف طبقة من الشجن الإنساني العميق، وتجعل من الانصراف لحظة تأمل وخشوع وطرب في آن واحد.
- الوضوح البلوري: لم يكن ثقل الإيقاع يؤثر أبداً على وضوح نطقه للحروف والكلمات، فكان المستمع قادراً على تذوق جمال الشعر حتى في أصعب المقاطع.
في الفيديو التالي، نشاهد أداءً حياً للهاشمي قروابي، يجسد فيه كل هذه الخصائص. نرى فيه الفنان المتمكن، الذي يقود الجوق بنظرة، ويتفاعل مع الجمهور، ويقدم الانصراف كتحفة فنية متكاملة من الطرب الأصيل والعميق.

حقوق الفيديو محفوظة لقناة: hichem hassen.
خاتمة: الانصراف.. نبض الطرب العميق
إن رحلة "الانصراف" من صالونات الصنعة الأرستقراطية إلى مقاهي الشعبي الشعبية هي قصة نجاح باهر، وتجسيد لعبقرية الثقافة الجزائرية في قدرتها على التجديد مع الحفاظ على الأصالة. لقد حافظ الانصراف على جوهره كإيقاع ثقيل ووقور، وتحول من مجرد جزء في بنية موسيقية صارمة، إلى لحظة طرب عميق ينتظرها الجمهور، وإلى مساحة لإظهار براعة شيوخ الفن.
اليوم، عندما نسمع إيقاع 5/8 يبدأ في "قعدة" شعبية، نعرف أن لحظة "السلطنة" قد حانت. هو ليس مجرد إيقاع، بل هو دعوة للتأمل، ورمز للعمق، ونبض لقلب الجزائر الذي، رغم كل شيء، لا يزال يعرف كيف يطرب ويتذوق الجمال الأصيل.
المصادر والمراجع
- بن دعماش، عبد القادر. الحاج م'حمد العنقى: عبقرية ومسيرة. منشورات القصبة.
- سعد الله، فوزي. (2009). يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب. دار قرطبة، الجزائر.
- أرشيف الإذاعة والتلفزيون الجزائري.
- مقالات وأبحاث أكاديمية حول تاريخ الموسيقى الأندلسية والشعبية في الجزائر.
- شهادات ولقاءات مع فنانين وباحثين في التراث الجزائري.
هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.
نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم