الملحون الجزائري: السجل المنسي للمقاومة من معركة مزغران إلى ثورة التحرير
الملحون الجزائري: السجل المنسي للمقاومة من معركة مزغران إلى ثورة التحرير
مقدمة: عندما يصبح الشعر ذاكرة أمة
التاريخ لا يُكتب فقط في دواوين السلاطين وتقارير الجنرالات. هناك تاريخ آخر، أكثر صدقاً وحياة، يُكتب بدموع الأمهات، وحماس الفرسان، وأنات المقهورين. هذا هو التاريخ الذي يحفظه الشعر الشعبي، والذي يمثل في الجزائر فن "الملحون" خير معبر عنه. لم يكن الملحون الجزائري مجرد فن للترفيه والتسلية، بل كان، وعلى مدى قرون من الصراع، هو السجل الحي لذاكرة الأمة، وديوانها الحربي، ومنبرها الإعلامي، وحصنها الأخير للحفاظ على الهوية.
منذ اللحظة التي وطئت فيها أقدام الغزاة الإسبان سواحل وهران ومستغانم، مروراً بالليل الطويل للاحتلال الفرنسي، ووصولاً إلى الفجر العظيم لثورة التحرير، كان شاعر الملحون حاضراً في قلب المعركة. لم يكن مجرد مراقب، بل كان مشاركاً، يحمل الكلمة كما يحمل المقاتل البندقية. كانت قصيدته بمثابة "وكالة أنباء" شعبية، تنقل أخبار المعارك، وتمجد بطولات القادة، وترثي الشهداء، وتحث على الصمود، وتفضح جرائم العدو.
في هذا المقال، سأصحبكم، أنا أخوكم أكرم ليتيم، في رحلة عبر تاريخ الجزائر، لا من خلال كتب المؤرخين الرسميين، بل من خلال عيون وقصائد شعراء الملحون. سنبدأ من "قصة مزغران" الخالدة للشيخ لخضر بن خلوف، لنرى كيف تأسس هذا التقليد العريق للشعر المقاوم، ثم نتتبع مسيرته البطولية وهو يواكب مقاومة الأمير عبد القادر، وصولاً إلى دوره الحاسم في ثورة نوفمبر المجيدة، لنكتشف معاً كيف يمكن لفن شعبي أن يصبح الذاكرة التي لا تموت لأمة عظيمة.
تأسيس التقليد: معركة مزغران (1558) وصوت سيدي لخضر بن خلوف
السياق التاريخي: الخطر الإسباني
في القرن السادس عشر، كانت السواحل الجزائرية تتعرض لهجمات إسبانية شرسة، تهدف إلى السيطرة على موانئها الاستراتيجية. في هذا السياق، جاءت معركة مزغran (قرب مستغانم) عام 1558، لتشكل نقطة تحول حاسمة، حيث تمكن الجيش الجزائري، مدعوماً من الدولة العثمانية، من تحقيق نصر ساحق على القوات الإسبانية الغازية بقيادة الكونت دي ألكوديت.
الشاعر الفارس: شاهد عيان
لم تكن هذه المعركة لتصل إلينا بكل تفاصيلها الحية لولا وجود شاعر فارس في قلبها: الشيخ سيدي لخضر بن خلوف. لم يكن بن خلوف مجرد شاعر يصف المعركة من بعيد، بل كان مجاهداً يقاتل في صفوف الجيش، ويرى الأحداث بعينيه. هذا المزيج النادر بين المقاتل والشاعر هو ما أعطى لقصيدته "قصة مزغran" قيمتها التاريخية والتوثيقية الاستثنائية.
"قصة مزغران": وثيقة شعرية
تعتبر قصيدة "مزغران" النموذج الأول والأهم للشعر الملحون كأداة للتأريخ الحربي. تبدأ القصيدة وكأنها تقرير إخباري، حيث يخاطب الشاعر فارساً قادماً من المعركة، ويطلب منه أن يروي "أخبار الصح معلومة". يقول بن خلوف:
يا فارس من ثم جيت اليوم * عيد اخبار الصح معلومـــة
يا عجلان ريض الملجوم * رايت اجنود الشوم ملمومــة
يا سايلني عن طراد الروم * قصة مزغran معلومــــة
ثم يمضي الشاعر في وصف تفصيلي ودقيق لأحداث المعركة، بدءاً من وصول الأسطول الإسباني ("ترى سفون الروم محترسة / صبحوا في المرسى أعداء الدين")، مروراً باستعدادات الجيش الجزائري وتجمع القبائل، وصولاً إلى وصف سير المعركة وهزيمة الإسبان ومقتل قائدهم. إن هذه القصيدة لم تكن مجرد شعر، بل كانت بياناً للنصر، وسجلاً للبطولة، وأداة لرفع معنويات الأمة. لقد أسست لتقليد عظيم سيستمر لقرون، وهو استخدام الملحون كسلاح في معركة الذاكرة والهوية.
القرن الطويل للاحتلال الفرنسي: الملحون حصن الهوية
صدمة 1830: سقوط الجزائر في عيون الشعراء
بعد قرون من السيادة، جاءت صدمة الاحتلال الفرنسي عام 1830 لتشكل جرحاً غائراً في الذاكرة الجزائرية. وكما كان متوقعاً، كان شعراء الملحون هم أول من عبر عن هذه الصدمة، ورثوا المدن الساقطة، وحفظوا للأجيال قصة الهزيمة وآلامها. يبرز في هذا السياق الشاعر بشير بن عدة، الذي وصف سقوط العاصمة في قصيدة تفيض حزناً وأسى:
يوم حراك الفرنسيس على السلطان لا طلا يا علي وجعفر
اتهانت بعد عزها حرة الاوطان حزني حزني على الجزائر
بعد العيش العزيز ولات في الاحزان
لكن اللافت في قصيدة ابن عدة، وغيرها من قصائد تلك الفترة، أنها لا تكتفي بالبكاء، بل تقوم بدور المؤرخ الدقيق. فهي تؤكد، كما تفعل المصادر التاريخية، على التفوق العددي والتنظيمي للجيش الفرنسي ("جات سفون الفرنسيس من كل مكان / غطات الموج ليس يظهر"). وفي نفس الوقت، توثق للمقاومة الشعبية الباسلة، فتذكر كيف أن جيوشاً من قسنطينة والتيطري (المدية) وجموعاً من القرى والجبال قد هبت للدفاع عن العاصمة، مما يؤكد أن المقاومة لم تكن محصورة في الجيش النظامي، بل كانت مقاومة شعبية شاملة.
تمجيد أبطال المقاومة: الأمير عبد القادر رمزاً
مع انطلاق المقاومات الشعبية في مختلف أنحاء الجزائر، وجد الملحون مادته الأغنى في تمجيد أبطال هذه المقاومات، وعلى رأسهم الأمير عبد القادر. لقد تحول الأمير في قصائد الملحون إلى رمز أسطوري، يجمع بين الشجاعة العسكرية، والحكمة السياسية، والورع الديني. يقول الشاعر ابن عبد الله في قصيدته الشهيرة "صال الدهر عليها":
قصة بن محي الدين يا الكتاب اتأمل فيها يا فطين خمم
ولد القيطنة هاشمي شريف الانساب علم وحكمة والجاه والنعايم
حين كبر محي الدين شيخ الاعراب
اعطاه السر وطابعه امزمم
هذه القصائد لم تكن مجرد مدح، بل كانت أداة سياسية وإعلامية فعالة. فهي كانت تساهم في ترسيخ شرعية الأمير في أعين الناس، من خلال ربطه بالنسب الشريف ("هاشمي شريف الانساب")، وإبراز كراماته ("اعطاه السر"). كما كانت تعمل على خلق "بانثيون" من الأبطال الوطنيين، من خلال ذكر أسماء قادة الأمير ومساعديه مثل "بوحميدي الولهاصي" و "الخلادي"، مما يحولهم من مجرد قادة عسكريين إلى رموز خالدة في الذاكرة الشعبية.
الفصل الأخير: الملحون في ثورة التحرير (1954-1962)
القصيدة والبندقية: الشاعر المجاهد
عندما اندلعت ثورة نوفمبر المجيدة، وجد الملحون نفسه مرة أخرى في قلب المعركة. لم يتخلف الشعراء الشعبيون عن نداء الوطن، بل انخرط الكثير منهم في صفوف جيش التحرير، ليصبحوا مجاهدين بالكلمة والبندقية معاً. لقد تحولت القصيدة في هذه المرحلة إلى أداة إعلامية وتنظيمية فعالة، خاصة في ظل الرقابة الشديدة التي فرضها المستعمر على وسائل الإعلام.
إعلام الثورة
كما يشير الباحث التلي بن شيخ، في ظل غياب الصحافة والإذاعة الحرة، كان الشاعر الشعبي هو "الإذاعة المتنقلة" للثورة. كانت القصيدة تنظم لتنقل أخبار الانتصارات، وتخلد أسماء الشهداء، وتفضح جرائم العدو، وتستهزئ به. ثم يتلقفها "الحفاظ" و "الرواة"، وينقلونها شفهياً من سوق إلى سوق، ومن قرية إلى قرية، فتساهم في رفع معنويات الشعب، وتفنيد دعاية المستعمر، وتعبئة الجماهير حول الثورة.
ذاكرة لا تموت
لقد شكل الشعر الملحون في فترة الثورة التحريرية أرشيفاً ضخماً وثميناً، وثق لأدق تفاصيل الكفاح المسلح. هو أرشيف لا يزال جزء كبير منه محفوظاً في الذاكرة الشفوية، وينتظر من يجمعه ويدرسه ليكشف عن جوانب إنسانية ووجدانية عميقة من تاريخ هذه الثورة العظيمة.
خاتمة: الأرشيف غير الرسمي لأمة
في الختام، يمكننا القول بثقة إن الشعر الملحون الجزائري لم يكن مجرد فن، بل كان ضرورة تاريخية. لقد كان هو الصوت الذي لا يمكن إسكاته، والذاكرة التي لا يمكن محوها. على مدى قرون من المقاومة، من معركة مزغران إلى ثورة التحرير، تطور الملحون من مجرد سجل للمعارك إلى أرشيف شامل يوثق لتاريخ أمة بكاملها، ببطولاتها ومآسيها، بأفراحها وأحزانها، بآمالها وآلامها.
إن العودة إلى هذا التراث الشعري اليوم ليست مجرد ترف فكري، بل هي ضرورة معرفية. فهذه القصائد، التي قد تبدو بسيطة في لغتها، تحمل في طياتها حقائق تاريخية عميقة، وتقدم لنا رؤية للتاريخ "من الأسفل"، من وجهة نظر الشعب الذي صنع هذا التاريخ بدمه وعرقه ودموعه. إنها الدليل الأصدق على أن روح المقاومة في الجزائر لم تكن يوماً قراراً سياسياً أو عملاً عسكرياً فحسب، بل كانت حالة وجدانية وثقافية متجذرة، وجد الشعر الملحون ليكون لسانها الناطق وقلبها الخافق.
هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.
نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم
صوت الشعب المقهور: الملحون مرآة للمعاناة والأمل
ما وراء المعركة: توثيق المعاناة اليومية
لم يقتصر دور الملحون المقاوم على وصف المعارك وتمجيد الأبطال. لقد كان أيضاً المرآة التي عكست المعاناة اليومية للشعب الجزائري تحت وطأة الاستعمار. تحدثت القصائد عن سياسات مصادرة الأراضي، وفرض الضرائب المجحفة، وانتشار الفقر والجوع، وتفكك البنى الاجتماعية التقليدية. لقد كانت هذه القصائد بمثابة "أرشيف اجتماعي" يوثق للآثار المدمرة للاستعمار على حياة الناس العاديين.
الملحون كأداة للمقاومة الثقافية
أدرك شعراء الملحون بفطرتهم أن المعركة لم تكن عسكرية فقط، بل كانت أيضاً معركة ثقافية وحضارية. ففي مواجهة سياسة "الفرنسة" التي انتهجها الاحتلال، والتي هدفت إلى طمس مقومات الشخصية الجزائرية، تحول الملحون إلى حصن للدفاع عن الهوية. كانت القصائد تدعو إلى التمسك بالدين الإسلامي، والاعتزاز باللغة العربية، وإحياء أمجاد الماضي. لقد كانت كل قصيدة ملحون بمثابة إعلان عن أن الجزائر، رغم الاحتلال، لا تزال حية بهويتها وثقافتها وقيمها.