مقدمة: نجم تافيلالت الساطع

في سماء الشعر الملحون المغربي، تلمع أسماء كالنجوم، حفرت بمداد من نور وحكمة مسيرتها في وجدان الأمة. ومن بين هذه الأسماء، يبرز اسم الشيخ التهامي المدغري (1859-1921م) كبدرٍ أضاء ليل عصره، وترك إرثاً أدبياً لا يزال صداه يتردد حتى يومنا هذا. لم يكن الشيخ المدغري مجرد ناظم للقصائد، بل كان "فحل الشعراء" وسلطان الكلمة الذي أبدع في كل أغراض الملحون، من الغزل إلى المديح، ومن الحكمة إلى الهجاء، وترك بصمة فريدة في هذا الفن الأصيل.

إن الغوص في سيرة هذا الشيخ الجليل هو غوص في تاريخ منطقة تافيلالت التي كانت منارة للعلم والثقافة، وهو إبحار في أعماق الشعر الملحون الذي اتخذه الشيخ وسيلة للتعبير عن أدق المشاعر وأعمق الأفكار. في هذا المقال المفصل، سنتتبع مسيرة هذا العلم الشامخ، منذ نشأته في أحضان أسرة عريقة، مروراً برحلته في طلب العلم، وصولاً إلى مكانته كأحد أبرز شعراء الملحون الذين أغنوا الخزانة التراثية المغربية بدرر فريدة، لا تزال حناجر المنشدين تتغنى بها في "القعدات" وحلقات الذكر.

النشأة والبيئة: تافيلالت، قلعة العلم والثقافة

وُلد الشيخ سيدي التهامي المدغري حوالي سنة 1276 هـ الموافق لـ 1859 م، في منطقة تافيلالت، وتحديداً في مدغرة. نشأ في كنف أسرة عريقة في العلم والصلاح، وتلقى تعليمه الأولي في الكتاتيب القرآنية، حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ اللغة والفقه. كانت تافيلالت في تلك الفترة مركزاً حضارياً وعلمياً مهماً، تعج بالزوايا والمدارس، وتزخر بالعلماء والفقهاء وشيوخ التربية الروحية.

في هذه البيئة المشبعة بالدين والعلم، خطا الفتى التهامي خطواته الأولى. أظهر نبوغاً مبكراً في قرض الشعر، وبدأ في نظم القصائد في سن مبكرة. تأثر بالجو الثقافي السائد، حيث كانت قصائد الملحون لشيوخ كبار تتردد في المجالس والأعراس، فتشرب هذا الفن من مصادره الأصيلة، وأدرك قوته التعبيرية وقدرته على الوصول إلى قلوب العامة والخاصة على حد سواء.

الرحلة إلى فاس: صقل الموهبة

في شبابه، رحل الشيخ التهامي المدغري إلى مدينة فاس، العاصمة العلمية للمغرب، وذلك بهدف استكمال تعليمه وصقل موهبته الشعرية. في فاس، جلس إلى كبار العلماء والفقهاء، ونهل من علومهم. كما خالط كبار شعراء الملحون في ذلك العصر، وتنافس معهم في "الحلڨات" (المجالس الشعرية)، مما أكسبه خبرة واسعة، وجعله يتبوأ مكانة مرموقة بينهم.

كانت فاس في تلك الفترة هي عاصمة الملحون بلا منازع، وفيها التقى الشيخ المدغري بشعراء كبار، وتبادل معهم القصائد، وشارك في المساجلات الشعرية التي كانت تقام في كل مناسبة. هذه التجربة الفاسية كانت حاسمة في مسيرة الشيخ، حيث أتاحت له الفرصة للاحتكاك بأهم مدرسة في فن الملحون، والتعرف على أساليبها وأوزانها وقوافيها.

ديوان الحكمة والغزل: تحليل شعر الشيخ المدغري

يعتبر ديوان الشيخ التهامي المدغري من أثمن كنوز الشعر الملحون المغربي. هو شاعر غزير الإنتاج، أبدع في مختلف أغراض الشعر، ويمكن تلخيصها في المحاور التالية:

  • الغزل (العشاقي): يعتبر الغزل هو الغرض الأبرز في شعر الشيخ المدغري. قصائده الغزلية تتميز بالرقة والعذوبة، وبوصف دقيق ومفصل لجمال المحبوبة. هو يصف لوعة الحب وألم الفراق بكلمات مؤثرة، ويستخدم صوراً شعرية مبتكرة. من أشهر قصائده في هذا الباب قصيدة "الكاس" وقصيدة "الحراز".
  • المديح النبوي: يحتل المديح النبوي مكانة كبيرة في ديوان الشيخ. هو يرى في النبي محمد صلى الله عليه وسلم النموذج الكامل للإنسان، والوسيلة العظمى للوصول إلى الله. قصائده في المديح تفيض حباً وشوقاً، وتصف شمائله الشريفة وصفاً بديعاً، وتتوسل به لنيل الشفاعة.
  • الحكمة والموعظة: تزخر قصائد الشيخ المدغري بالحكم والمواعظ، التي تدعو إلى الزهد في الدنيا، ومحاسبة النفس، والتوبة إلى الله، والتمسك بالأخلاق الفاضلة. هو يخاطب "الغافل" و"النائم"، ويذكره بحقيقة الموت والحساب، ويحثه على اغتنام العمر قبل فوات الأوان.
  • الهجاء والنقد الاجتماعي: لم يكن الشيخ المدغري بمعزل عن مجتمعه، بل كان ناقداً له. قصائده الهجائية تتميز بالقوة والحدة، ويسخر فيها من بعض الظواهر السلبية في مجتمعه، مثل النفاق والجهل والبخل.

الأسلوب الفني: فحل الشعراء

يتميز أسلوب الشيخ المدغري بقوة اللغة وجزالة الألفاظ. هو يستخدم مصطلحات الملحون الصعبة والأصيلة، ويبني قصائده على أوزان معقدة، مما يجعل شعره نخبوياً، لا يدرك كنهه إلا "البيب الفطن" و"الدهات" من أهل الفن. قصائده مليئة بالصور الشعرية المبتكرة، والتشبيهات البديعة، مما جعله يلقب بـ "فحل الشعراء".

الإرث الخالد: الديوان والتأثير

توفي الشيخ التهامي المدغري سنة 1340 هـ الموافق لـ 1921 م، وترك وراءه ديواناً شعرياً ضخماً، يعتبر من أهم مصادر الشعر الملحون المغربي. لقد حفظت الصدور قصائده، وتناقلتها الأجيال، وظلت حناجر كبار المنشدين، من الحاج الحسين التولالي إلى محمد بوزوبع وغيرهم، تتغنى بدرره، ليبقى صوته حياً، وشعره نبراساً يهدي عشاق هذا الفن الأصيل.

خاتمة: بحر لا ساحل له

إن الحديث عن الشيخ التهامي المدغري هو حديث عن بحر لا ساحل له، فهو شاعر فحل، استطاع أن يطوع اللغة، ويأتي بالمعاني المبتكرة، ويترك بصمة لا تمحى في تاريخ الشعر الملحون. وستبقى قصائده خالدة، تروي للأجيال قصة شاعر عظيم، أحب فنه، وعبر عن عصره بصدق وبراعة.